في عصر يعتمد فيه العالم بشكل متزايد على التكنولوجيا، أصبحت الإنترنت جزءاً لا يتجزأ من حياتنا اليومية، حيث يتم تداول مليارات الرسائل، وتخزين البيانات الضخمة، وتشغيل مراكز الحوسبة السحابية على مدار الساعة. لكن ما لا يدركه كثيرون هو أن هذا النشاط الرقمي يترك بصمة بيئية هائلة، إذ تحتاج البنية التحتية الرقمية إلى طاقة ضخمة، مما يساهم في زيادة انبعاثات الكربون على مستوى عالمي. فهل يمكن أن يكون الإنترنت، الذي اعتبره البعض حلاً لتقليل الأثر البيئي، أحد أكبر الملوثين الخفيين للبيئة؟
عندما نرسل بريدًا إلكترونيًا أو نشاهد مقطع فيديو على يوتيوب، فإن ذلك يبدو كعملية غير مادية، لكن الواقع مختلف تمامًا. تشير تقارير “الوكالة الدولية للطاقة” إلى أن مراكز البيانات العملاقة التي تدير خدمات الإنترنت تستهلك حوالي 1% من إجمالي الكهرباء العالمية، وهو رقم يعادل استهلاك دولة بأكملها مثل الأرجنتين.
المشكلة تتفاقم مع النمو الهائل في تخزين البيانات. في عام 2023، بلغ إجمالي حجم البيانات المخزنة على الإنترنت حوالي 100 زيتابايت (100 مليار تيرابايت)، ومع ازدياد الحاجة إلى الخدمات السحابية، من المتوقع أن يتضاعف هذا الرقم بحلول عام 2030. هذه الكمية الضخمة من البيانات تعني أن مراكز البيانات يجب أن تعمل بكفاءة على مدار الساعة، وهو ما يؤدي إلى انبعاث ملايين الأطنان من ثاني أكسيد الكربون سنويًا.
يقول الدكتور منير الكرار، أستاذ الهندسة البيئية بجامعة نواكشوط، إن “الإنترنت ليس كياناً غير ملموس كما يتصور البعض، بل يعتمد على شبكة معقدة من مراكز البيانات والكابلات تحت البحر والخوادم الضخمة التي تحتاج إلى طاقة كهربائية هائلة. كلما زاد استهلاك البيانات، زاد استهلاك الطاقة، وبالتالي زادت البصمة الكربونية لهذه الصناعة”.
مراكز البيانات: قلاع رقمية تستهلك طاقة هائلة
تعد مراكز البيانات العمود الفقري للإنترنت، حيث تقوم بتخزين المعلومات وتشغيل الخدمات الرقمية على مدار الساعة. لكن هذه المراكز تستهلك كميات هائلة من الكهرباء، معظمها يأتي من مصادر غير متجددة. وفقًا لتقرير صادر عن “منتدى الاقتصاد العالمي”، فإن أكبر مراكز البيانات في العالم تستخدم سنويًا طاقة تعادل استهلاك ملايين المنازل، مع استمرار الحاجة إلى مزيد من التوسع لمواكبة الطلب المتزايد على الحوسبة السحابية.
في الولايات المتحدة وحدها، تستهلك مراكز البيانات أكثر من 90 تيراواط/ساعة سنويًا، وهو ما يعادل استهلاك الطاقة في دولة متوسطة الحجم. أما في الصين، فقد زاد عدد مراكز البيانات بشكل كبير بسبب التوسع في تقنيات الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية، مما جعل البلاد تواجه تحديات كبيرة في تأمين الكهرباء لهذه البنية التحتية المتزايدة.
في الدول العربية، بدأ الاهتمام بمراكز البيانات ينمو بشكل كبير. في الإمارات، تم إطلاق مشاريع ضخمة لإنشاء مراكز بيانات تعتمد جزئيًا على الطاقة المتجددة، لكن لا تزال معظم مراكز البيانات في المنطقة تعمل بالطاقة التقليدية، مما يزيد من الانبعاثات الكربونية. في السعودية، يجري العمل على مشروع “نيوم” الذي يهدف إلى بناء بنية تحتية رقمية مستدامة، مع التركيز على استخدام الطاقة النظيفة لتشغيل مراكز البيانات.
يؤكد الدكتور سامح البغدادي، الباحث في تقنيات المعلومات المستدامة بجامعة الثمامة، أن “أزمة الطاقة التي تواجهها مراكز البيانات ستزداد سوءًا مع التوسع في الذكاء الاصطناعي وتقنيات البلوكتشين. الحل لا يكمن فقط في تحسين كفاءة الطاقة، بل في التحول السريع إلى مصادر طاقة متجددة”.
العملات الرقمية وتعدين البتكوين: وحش الطاقة الجديد
أحد أكبر المساهمين في التلوث الرقمي هو تعدين العملات الرقمية، وعلى رأسها البتكوين، حيث تحتاج عمليات التعدين إلى كميات هائلة من الطاقة لحل العمليات الحسابية المعقدة التي تتيح تشغيل الشبكة. وفقًا لدراسة نشرتها “جامعة كامبريدج”، فإن استهلاك الكهرباء لتعدين البتكوين وحده يفوق استهلاك بعض الدول الصغيرة، مثل هولندا.
العديد من عمليات التعدين تتم في دول تستخدم الفحم كمصدر رئيسي للطاقة، مثل الصين وكازاخستان، مما يجعل البصمة الكربونية لهذه العمليات عالية جدًا. في المقابل، بدأت بعض الدول، مثل السويد وكندا، في البحث عن طرق أكثر استدامة لتعدين العملات الرقمية باستخدام مصادر الطاقة المتجددة.
يقول الدكتور محمود العروي، أستاذ الاقتصاد البيئي بجامعة وهران، إن “العملات الرقمية تعد واحدة من أسرع الصناعات نمواً، لكنها تأتي بتكلفة بيئية ضخمة. إذا لم يتم تطوير حلول جديدة لتقليل استهلاك الطاقة في التعدين، فإن هذه الصناعة قد تتحول إلى أحد أكبر الملوثين في المستقبل القريب”.
هل يمكن تقليل البصمة الكربونية للإنترنت؟
في مواجهة هذا التحدي، بدأت بعض شركات التكنولوجيا العملاقة في البحث عن حلول لتقليل الأثر البيئي للإنترنت. أعلنت “غوغل” و”مايكروسوفت” و”أمازون” عن خطط لاستخدام مصادر طاقة متجددة بنسبة 100% في تشغيل مراكز بياناتها خلال العقد المقبل، لكن هذه المبادرات لا تزال محدودة مقارنة بحجم الطلب المتزايد على الحوسبة السحابية.
في أوروبا، بدأت بعض الحكومات بفرض قيود بيئية على تشغيل مراكز البيانات، حيث يُطلب من الشركات استخدام تقنيات تبريد أكثر كفاءة، وتقليل استهلاك الكهرباء، وتشجيع إعادة تدوير الأجهزة القديمة. أما في اليابان، فقد تم تطوير تقنيات مبتكرة تعتمد على تبريد الخوادم بالمياه الباردة بدلاً من الهواء، مما يقلل استهلاك الطاقة بشكل كبير.
في العالم العربي، لا تزال الجهود متواضعة في هذا المجال، حيث تركز معظم الاستثمارات الرقمية على بناء مراكز بيانات جديدة دون وضع معايير بيئية صارمة. يقول الدكتور طارق الزياني، المتخصص في الحوسبة الخضراء بجامعة الدوحة، إن “الدول العربية بحاجة إلى تبني سياسات مستدامة في قطاع التكنولوجيا، سواء عبر تشجيع استخدام الطاقة الشمسية في تشغيل مراكز البيانات، أو فرض لوائح تقلل من الاستهلاك غير الضروري للطاقة”.
رغم أن الإنترنت يعد أحد المحركات الرئيسية للاقتصاد الحديث، إلا أن بصمته البيئية أصبحت مشكلة حقيقية تتطلب حلولاً عاجلة. في ظل التوسع المستمر في استخدام البيانات، والذكاء الاصطناعي، والعملات الرقمية، يبقى السؤال: هل يمكن للإنترنت أن يصبح صديقًا للبيئة، أم أن التكنولوجيا التي اعتمد عليها العالم لتقليل استهلاكه للموارد قد تتحول إلى أكبر ملوث في المستقبل؟
بينما تستمر بعض الشركات والحكومات في البحث عن حلول أكثر استدامة، لا يزال الطريق طويلاً أمام التحول الكامل إلى بنية تحتية رقمية خضراء. وحتى يتم اتخاذ إجراءات جادة، ستظل شبكة الإنترنت جزءاً من المشكلة البيئية التي يواجهها العالم، وليس الحل الذي يسعى إليه الكثيرون.