Spread the love

في خضم البحث عن مصادر طاقة نظيفة ومستدامة، تتجه الأنظار إلى الطاقة الحرارية الأرضية، التي تُعتبر واحدة من أكثر المصادر الواعدة للطاقة المتجددة. تعتمد هذه التقنية على استخراج الحرارة المخزنة في باطن الأرض وتحويلها إلى كهرباء، مما يوفر بديلاً مستداماً للوقود الأحفوري، دون المخاطر البيئية المرتبطة بالطاقة النووية. لكن رغم مزاياها العديدة، لا تزال الطاقة الحرارية الأرضية غير مستغلة بالشكل الكافي، خصوصاً في العالم العربي، حيث تهيمن الطاقات التقليدية على المشهد الطاقي. فهل يمكن لهذه الطاقة أن تصبح بديلاً حقيقياً للطاقة النووية، أم أنها مجرد حل نظري يواجه عقبات تكنولوجية واقتصادية؟

كيف تعمل الطاقة الحرارية الأرضية؟

تستمد الطاقة الحرارية الأرضية قوتها من الحرارة الهائلة الموجودة في باطن الأرض، والتي تنتج عن النشاط الإشعاعي الطبيعي داخل القشرة الأرضية. تعتمد أنظمة الطاقة الحرارية الأرضية على حفر آبار عميقة تصل إلى طبقات الصخور الساخنة، ثم ضخ المياه إليها، مما يؤدي إلى توليد بخار يستخدم في تشغيل التوربينات لإنتاج الكهرباء.

تتميز هذه التقنية بأنها تعمل على مدار الساعة، خلافاً للطاقة الشمسية أو طاقة الرياح، التي تعتمد على الظروف الجوية. كما أنها لا تنتج انبعاثات كربونية تُذكر، مما يجعلها خياراً مثالياً لمكافحة التغير المناخي.

تشير تقارير “وكالة الطاقة الدولية” إلى أن الطاقة الحرارية الأرضية قادرة نظريًا على تلبية 10% من احتياجات العالم من الكهرباء، إذا تم تطويرها بالشكل المناسب. لكن رغم هذا الإمكان الهائل، لا تزال مساهمتها في إنتاج الطاقة العالمي لا تتجاوز 0.5%، مما يثير تساؤلات حول أسباب تأخر الاعتماد عليها.

يقول الدكتور إبراهيم التميمي، أستاذ هندسة الطاقة المتجددة بجامعة بغداد، إن “الطاقة الحرارية الأرضية لديها إمكانيات هائلة، لكنها تواجه تحديات تتعلق بالكلفة الأولية المرتفعة وتقنيات الحفر العميق. على الرغم من ذلك، فإن التطورات الحديثة قد تجعلها خياراً تنافسياً في المستقبل”.

مقارنة بالطاقة النووية: أيهما أكثر كفاءة وأماناً؟

تُعتبر الطاقة النووية من أكثر مصادر الطاقة كفاءة، حيث تنتج كميات هائلة من الكهرباء دون انبعاثات كربونية. لكن رغم فعاليتها، لا تزال الطاقة النووية تواجه انتقادات بسبب مخاطرها البيئية، خاصة فيما يتعلق بالنفايات المشعة، وإمكانية حدوث كوارث نووية مثل تشيرنوبل وفوكوشيما.

في المقابل، توفر الطاقة الحرارية الأرضية بديلاً أكثر أمانًا، حيث لا تتطلب مواد مشعة أو عمليات معالجة معقدة للنفايات. كما أنها أقل تكلفة على المدى الطويل، إذ لا تحتاج إلى وقود مثل اليورانيوم أو البلوتونيوم، ولا تستهلك كميات كبيرة من المياه كما هو الحال في المحطات النووية.

لكن الطاقة النووية لا تزال متفوقة من حيث الإنتاجية، حيث تستطيع محطة نووية واحدة توليد طاقة أكبر بكثير من محطة حرارية أرضية، ما يجعلها أكثر ملاءمة للدول ذات الاحتياجات الطاقية العالية. يوضح الدكتور ماهر عبد الكريم، الباحث في هندسة الطاقة بجامعة دمشق، أن “الطاقة النووية تظل خيارًا جذابًا للدول الكبرى بسبب كفاءتها العالية، لكن الدول الصغيرة أو التي لا تمتلك بنية تحتية متطورة للطاقة النووية قد تجد في الطاقة الحرارية الأرضية بديلاً أكثر استدامة وأقل خطورة”.

هل يمكن للدول العربية الاستفادة من الطاقة الحرارية الأرضية؟

تتمتع العديد من الدول العربية بموارد جيولوجية غنية يمكن أن تدعم مشاريع الطاقة الحرارية الأرضية، خصوصًا الدول التي تمتلك نشاطًا بركانيًا، مثل اليمن والسعودية والأردن والمغرب. في الأردن، بدأ تنفيذ بعض المشاريع التجريبية للاستفادة من هذه الطاقة، حيث تشير الدراسات إلى أن المناطق القريبة من البحر الميت تحتوي على مصادر حرارية يمكن استغلالها بشكل واسع.

في السعودية، تعمل “مدينة الملك عبد الله للطاقة المتجددة” على دراسة إمكانيات تطوير الطاقة الحرارية الأرضية كجزء من خطط المملكة لتنويع مصادر الطاقة. أما في المغرب، فقد أظهرت المسوحات الجيولوجية أن بعض المناطق الجنوبية تمتلك إمكانيات جيدة لاستغلال هذه الطاقة، لكنها لم تُستغل حتى الآن بسبب ارتفاع التكاليف الأولية لحفر الآبار العميقة.

يقول الدكتور جلال المنصوري، أستاذ الجيولوجيا الحرارية بجامعة نواكشوط، إن “الدول العربية تمتلك إمكانيات جيدة لاستغلال الطاقة الحرارية الأرضية، لكن التحدي يكمن في غياب الاستثمار الكافي والتكنولوجيا المتقدمة التي تتيح الاستفادة منها بكفاءة”. ويرى أن “الحكومات يجب أن تشجع البحث العلمي والشراكات مع الشركات الدولية لتطوير مشاريع طاقة حرارية مستدامة”.

التحديات التقنية والاقتصادية أمام انتشار الطاقة الحرارية الأرضية

رغم الفوائد البيئية والاقتصادية التي توفرها الطاقة الحرارية الأرضية، إلا أن هناك العديد من العوائق التي تعرقل انتشارها على نطاق واسع. أحد أكبر التحديات هو التكلفة الأولية المرتفعة لحفر الآبار العميقة، التي قد تصل إلى عدة ملايين من الدولارات لكل بئر، ما يجعل الاستثمار في هذه التقنية مكلفًا مقارنة بالطاقة الشمسية أو الرياح.

كما أن تكنولوجيا استخراج الحرارة لا تزال بحاجة إلى تحسينات لضمان كفاءة أعلى وتقليل التأثيرات البيئية. في بعض المناطق، قد يؤدي استخراج الحرارة من باطن الأرض إلى حدوث زلازل صغيرة، مما يجعل بعض الحكومات تتردد في تبني هذه التقنية على نطاق واسع.

تؤكد الدكتورة هالة السالمي، الخبيرة في تقنيات الطاقة المستدامة بجامعة تونس، أن “التقدم في تقنيات الحفر وتحسين كفاءة توليد الكهرباء من المصادر الحرارية يمكن أن يجعل هذه الطاقة أكثر تنافسية. لكنها لا تزال بحاجة إلى دعم حكومي واستثمارات طويلة الأمد حتى تصبح بديلاً عمليًا لمصادر الطاقة التقليدية”.

المستقبل: هل يمكن أن تصبح الطاقة الحرارية الأرضية جزءًا من الحل؟

رغم التحديات، فإن الطاقة الحرارية الأرضية قد تكون أحد الحلول المهمة لتحقيق انتقال طاقي مستدام. في الدول التي تمتلك بنية جيولوجية مناسبة، يمكن أن تصبح هذه الطاقة مصدرًا رئيسيًا للكهرباء، خاصة إذا تم تطوير تقنيات تقلل من تكاليف الحفر والتشغيل.

ومع تزايد الاهتمام العالمي بالطاقة النظيفة، قد نشهد في العقود القادمة تحولًا نحو الاستثمار في هذه التقنية، خاصة مع تراجع الاعتماد على الوقود الأحفوري والطاقة النووية في بعض الدول. لكن السؤال الرئيسي يظل قائمًا: هل يمكن أن تصبح الطاقة الحرارية الأرضية بديلاً حقيقيًا للطاقة النووية، أم أنها ستظل مجرد حل ثانوي يستخدم في بعض المناطق المحدودة؟

حتى الآن، لا تزال الإجابة غير واضحة، لكن ما هو مؤكد أن مستقبل الطاقة يحتاج إلى مزيج متنوع من المصادر المستدامة، وأن الطاقة الحرارية الأرضية قد تلعب دورًا أكبر مما كان متوقعًا في السابق، خاصة في الدول التي تبحث عن حلول نظيفة وأقل تكلفة على المدى الطويل.

error: Content is protected !!