Spread the love

مع تزايد الكثافة السكانية والنمو العمراني المتسارع، باتت المدن في قلب الأزمة البيئية العالمية. تعاني العديد من العواصم الكبرى من تلوث الهواء، والاكتظاظ المروري، والضغط على الموارد الطبيعية، ما يجعل الحياة في المدن أكثر صعوبة من أي وقت مضى. في المقابل، ظهر مفهوم “المدن المستدامة” كحلّ مستقبلي يهدف إلى تقليل الانبعاثات، وتحسين جودة الحياة، وتعزيز استخدام الطاقة النظيفة. لكن في العالم العربي، حيث تهيمن أنماط التنمية غير المستدامة، يبقى السؤال مطروحاً: هل يمكن للمدن العربية أن تتحول إلى مدن صديقة للبيئة، أم أن التحديات الاقتصادية والسياسية ستظل عائقاً أمام هذا التحول؟

تشير بيانات “منظمة الصحة العالمية” إلى أن العديد من المدن العربية تعاني من مستويات تلوث تفوق المعدلات الآمنة، حيث تحتل القاهرة، والرياض، وبغداد مراكز متقدمة في قائمة المدن الأكثر تلوثاً في العالم. تعود هذه المشكلة بشكل رئيسي إلى الاستخدام المكثف للوقود الأحفوري في وسائل النقل والصناعة، إلى جانب غياب سياسات صارمة للحد من الانبعاثات. في القاهرة، على سبيل المثال، تُظهر دراسات “وزارة البيئة المصرية” أن مستويات الجسيمات العالقة في الهواء تفوق المعدلات الصحية الموصى بها بخمسة أضعاف، ما يتسبب في زيادة معدلات الإصابة بأمراض الجهاز التنفسي والقلب.

أما في دول الخليج، فإن ارتفاع معدلات استهلاك الطاقة يشكل تحدياً بيئياً كبيراً، حيث تُعد الإمارات والسعودية وقطر من بين الدول الأعلى استهلاكاً للكهرباء للفرد الواحد في العالم. يعتمد هذا الاستهلاك الضخم بشكل أساسي على محطات توليد الكهرباء التي تعمل بالوقود الأحفوري، مما يرفع من مستويات انبعاثات ثاني أكسيد الكربون. الدكتور سامي العابد، أستاذ الهندسة البيئية بجامعة بيروت، يرى أن “المدن العربية بحاجة إلى سياسات واضحة لخفض الانبعاثات، سواء عبر تحسين شبكات النقل العام، أو دعم التحول إلى السيارات الكهربائية، أو تعزيز المساحات الخضراء داخل المدن”.

مشاريع المدن المستدامة: خطوات بطيئة ولكنها واعدة

على الرغم من التحديات، بدأت بعض الدول العربية في اتخاذ خطوات جادة نحو التحول إلى مدن مستدامة. في الإمارات، يُعد مشروع “المدينة المستدامة” في دبي نموذجاً فريداً لمدينة تعتمد على الطاقة الشمسية، وإعادة تدوير المياه، وتقنيات البناء الذكية. كما تعمل السعودية على تطوير مدينة “ذا لاين”، التي تهدف إلى أن تكون خالية تماماً من السيارات والانبعاثات الكربونية، مع التركيز على التنقل الذكي والطاقة النظيفة.

لكن خارج منطقة الخليج، لا تزال هذه المشاريع محدودة. في المغرب، تم إطلاق مشروع “الدار البيضاء الخضراء”، الذي يهدف إلى تحويل المدينة إلى نموذج بيئي يعتمد على النقل الكهربائي والمساحات الخضراء، لكنه يواجه تحديات تتعلق بالتمويل والبنية التحتية. في مصر، أعلن عن خطط لبناء مدينة “العاصمة الإدارية الجديدة” بمفهوم مستدام، لكنها لا تزال في مراحلها الأولى، ولم يتضح بعد مدى التزامها بالمعايير البيئية الحقيقية.

الدكتور زكي الخميسي، الخبير في التنمية الحضرية بجامعة القاهرة، يرى أن “التحدي الأكبر أمام المدن العربية ليس فقط إنشاء مشاريع مستدامة، بل دمج هذه المبادئ في النسيج العمراني القائم”. ويضيف أن “معظم المبادرات الحالية تركز على بناء مدن جديدة من الصفر، بينما المدن القديمة التي تعاني من التلوث والزحام لا تحظى بأي حلول جدية لتطويرها وفق معايير الاستدامة”.

تحقيق الاستدامة في المدن لا يقتصر على تقليل التلوث فقط، بل يشمل تطوير بنية تحتية خضراء تعزز استخدام الموارد الطبيعية بطريقة أكثر كفاءة. في أوروبا، على سبيل المثال، تعتمد العديد من المدن على أنظمة الصرف الذكية التي تعيد تدوير مياه الأمطار لاستخدامها في الري، كما يتم دمج الألواح الشمسية في المباني لتوليد الطاقة الكهربائية بشكل مستقل.

لكن في العالم العربي، لا تزال هذه التقنيات نادرة الاستخدام. في بيروت، أدى غياب التخطيط البيئي إلى أزمات مزمنة في إدارة المياه والنفايات، بينما تعاني بغداد من نقص حاد في شبكات الصرف الصحي الحديثة، ما يؤدي إلى تلوث الأنهار وزيادة المخاطر الصحية. الدكتور جمال نصار، أستاذ التخطيط البيئي بجامعة بغداد، يشير إلى أن “غياب الاستثمار في البنية التحتية الخضراء يجعل من الصعب تحقيق تحول حقيقي نحو المدن المستدامة”. ويؤكد أن “المدن العربية تحتاج إلى رؤية شاملة تجمع بين تطوير النقل العام، وتحسين إدارة المياه، وتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري”.

التحديات الاقتصادية والسياسية: هل تمنع التحول إلى الاستدامة؟

رغم الفوائد البيئية والاقتصادية للمدن المستدامة، لا تزال هناك عقبات كبيرة تعرقل هذا التحول في الدول العربية. أحد أهم هذه العوائق هو التكلفة المالية المرتفعة لمشاريع الاستدامة، حيث تتطلب المدن الخضراء استثمارات ضخمة في البنية التحتية والتكنولوجيا المتطورة. في ظل الأزمات الاقتصادية التي تعاني منها بعض الدول العربية، يصبح من الصعب إقناع الحكومات بإنفاق المليارات على مشاريع بيئية، خاصة في دول تعتمد اقتصاداتها بشكل أساسي على النفط والغاز.

التحدي الآخر يتمثل في غياب السياسات البيئية الملزمة. في العديد من الدول، لا تزال اللوائح المتعلقة بالتخطيط الحضري تفتقر إلى معايير واضحة للاستدامة، ما يجعل المطورين العقاريين يركزون على المشروعات التقليدية دون الالتزام بأي ضوابط بيئية. تقرير صادر عن “البنك الدولي” عام 2023 أشار إلى أن 80% من المدن العربية لا تمتلك خططاً واضحة لخفض انبعاثاتها الكربونية، بينما لا تزال معايير البناء الأخضر غير مُلزمة في معظم الدول.

يؤكد الدكتور نادر فخري، خبير السياسات الحضرية بجامعة تونس، أن “إحدى المشكلات الكبرى التي تواجه التحول إلى المدن المستدامة في العالم العربي هي غياب الإرادة السياسية”. ويضيف أن “الحكومات غالباً ما تعطي الأولوية للمشاريع الاقتصادية قصيرة الأجل، بينما يتم تجاهل الأثر البيئي طويل الأمد”. ويرى أن الحل يكمن في وضع سياسات حكومية واضحة تفرض معايير بيئية على جميع المشاريع الجديدة، إلى جانب تشجيع الاستثمارات الخاصة في مجال التنمية المستدامة.

رغم التحديات، لا يزال هناك أمل في تحول المدن العربية إلى بيئات أكثر استدامة. مع ازدياد الوعي البيئي والضغوط الدولية، بدأت بعض الدول تتجه نحو سياسات أكثر صرامة فيما يخص التخطيط العمراني والاستدامة. كما أن التطورات التكنولوجية، مثل الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء، قد تساعد في تحسين إدارة المدن وتقليل الهدر في الطاقة والمياه.

لكن لتحقيق هذا التحول، تحتاج الدول العربية إلى تغيير جذري في سياساتها الحضرية، بحيث لا يكون الحديث عن الاستدامة مجرد شعارات، بل جزءاً من التخطيط الفعلي للمدن. السؤال المطروح اليوم هو: هل تمتلك الحكومات العربية الشجاعة والإرادة لتغيير مسار التنمية الحضرية، أم أن مدن المستقبل ستظل مجرد نسخ مكبرة من أزماتها الحالية؟

error: Content is protected !!