لطالما كانت العلاقة بين المرأة والدين قضية محورية في المجتمعات العربية والإسلامية، حيث شكّلت التفسيرات الفقهية للنصوص الدينية القواعد التي حددت أدوار النساء وحدود حرياتهن لقرون طويلة. وبينما يرى البعض أن هذه التفسيرات مستمدة من النصوص المقدسة نفسها، فإن آخرين يجادلون بأن هذه النصوص قد تم تأويلها بشكل يتناسب مع الذكورية السائدة في المجتمعات، مما أدى إلى تقييد حقوق المرأة، سواء في الزواج، الطلاق، الميراث، العمل، أو القيادة السياسية.
لكن هل المشكلة تكمن في النصوص الدينية نفسها، أم في كيفية تأويلها عبر التاريخ؟ وكيف أثرت هذه التفسيرات على مكانة المرأة في المجتمعات الإسلامية؟ وهل يمكن للمرأة اليوم أن تكون جزءًا من عملية إعادة قراءة النصوص بطريقة أكثر عدالة؟
منذ القرن الأول للهجرة، برزت المدارس الفقهية الكبرى، مثل المالكية، الحنفية، الحنبلية، والشافعية، التي شكلت الإطار العام للتشريع الإسلامي. ومع أن هذه المدارس لم تكن متطابقة في جميع مسائل الأحوال الشخصية، فإنها اشتركت في تبني رؤية ذكورية للعالم، حيث كان العلماء الفقهاء في معظمهم رجالًا، ولم تكن هناك مشاركة نسائية فعلية في عملية إنتاج الأحكام الدينية أو الفتاوى.
تقول الباحثة المغربية أمينة بلكوش، المتخصصة في دراسات الفقه والجندر، إن “النصوص الدينية لم تكن واضحة في جميع المسائل، ولهذا اعتمدت عملية التفسير على اجتهادات الفقهاء، الذين كانوا يعيشون في مجتمعات ذكورية. وبطبيعة الحال، جاءت هذه التفسيرات متأثرة بالبنية الاجتماعية التي كانت تعتبر المرأة كائنًا تابعًا للرجل.”
وتضيف أن “الفقهاء في العصور الأولى للإسلام لم يكونوا مجرد ناقلين للنصوص، بل كانوا منتجين للمعرفة الدينية وفقًا لرؤيتهم للعالم، والتي انعكست في الأحكام الفقهية التي لا تزال تؤثر على وضع النساء حتى اليوم.”
المرأة في الفقه الإسلامي: بين الحقوق المقيدة والتفسيرات البديلة
تظهر الفجوة الجندرية في التفسير الفقهي بوضوح في العديد من القضايا، ومنها:
الميراث: غالبًا ما يُستشهد بالآية القرآنية التي تحدد أن للذكر مثل حظ الأنثيين لتبرير عدم المساواة في توزيع الثروة، رغم أن هذه الآية جاءت ضمن سياق تاريخي معين، وكانت تنظم الميراث في مجتمع أبوي كان يفرض على الرجال مسؤوليات مالية محددة.
الزواج والطلاق: منح الفقه التقليدي الرجل سلطة مطلقة في الطلاق، بينما قيد قدرة المرأة على فسخ الزواج، إلا في حالات نادرة مثل العجز الجنسي أو سوء المعاملة الفادح.
الشهادة في القضاء: اعتُبرت شهادة المرأة نصف شهادة الرجل في بعض القضايا، بناءً على تفسير فقهي يرى أن المرأة “ناقصة عقل ودين”، وهو تأويل حديث لحديث نبوي اختلف الفقهاء حول تفسيره.
الولاية السياسية: تم استخدام تأويلات دينية لمنع النساء من الوصول إلى المناصب السياسية العليا، رغم وجود نساء قائدات في التاريخ الإسلامي مثل شجرة الدر في مصر، وراضية سلطانة في الهند.
يقول الباحث المصري يحيى جاد الحق، المختص في الفقه الإسلامي، إن “الفقه الإسلامي لم يكن جامدًا، بل كان متغيرًا عبر الزمن، لكن المشكلة أنه منذ العصور الوسطى، أصبح هناك توجه نحو تقديس الاجتهادات الفقهية القديمة، مما جعل بعض الأحكام التي كانت اجتهادية تتحول إلى مسلمات دينية.”
مع ظهور الحركات النسوية الإسلامية في العقود الأخيرة، بدأت بعض النساء في تحدي التفسيرات التقليدية للنصوص الدينية، والمطالبة بحقهن في أن يكنّ جزءًا من عملية إنتاج المعرفة الدينية.
في المغرب، تم إطلاق مبادرة “المرشدات الدينيات”، حيث تم تدريب نساء على الفقه والشريعة ليتولين أدوارًا في الإرشاد الديني، مما شكّل خطوة أولى نحو كسر احتكار الرجال للفتوى.
كما برزت أكاديميات نسويات مثل أمينة ودود في الولايات المتحدة، وفاطمة المرنيسي في المغرب، اللواتي قدمن قراءات بديلة للنصوص الدينية، تقوم على تفكيك التفسيرات الأبوية وإعادة النظر في فهم الإسلام بطريقة أكثر إنصافًا للمرأة.
هل يمكن إعادة قراءة النصوص بطريقة أكثر إنصافًا للمرأة؟
يؤكد بعض الباحثين أن إعادة قراءة النصوص الدينية من منظور نسوي لا تعني بالضرورة إلغاء الأحكام الدينية، بل تعني العودة إلى سياقها التاريخي والاجتماعي، والتساؤل حول ما إذا كانت هذه الأحكام قد تم تفسيرها بطريقة منحازة ضد المرأة.
يمكن الاستناد إلى المنهج التاريخي في تفسير النصوص، لفهم السياق الذي ظهرت فيه بعض الأحكام، ومعرفة ما إذا كان بالإمكان تطوير اجتهادات جديدة تتماشى مع متطلبات العصر.
إعادة الاعتبار للسيرة النبوية التي شهدت دورًا أكثر تقدمية للنساء مما تعكسه بعض التفسيرات الفقهية التقليدية.
إفساح المجال للمرأة في المؤسسات الدينية، بحيث لا يبقى تفسير النصوص حكرًا على الرجال، ويتم دمج أصوات نسائية في الفقه والاجتهاد الديني.
ما المطلوب لتغيير واقع المرأة في الفقه الإسلامي؟
إذا كان الفقه الإسلامي قد تأثر بالبيئات الذكورية التي أنتجته، فإن تغييره اليوم يتطلب خطوات فعلية، منها:
دعم الدراسات الفقهية النسوية، بحيث يتم تقديم قراءات جديدة تركز على العدالة الجندرية في الإسلام.
فتح باب الاجتهاد في قضايا المرأة، وعدم التعامل مع الفتاوى القديمة باعتبارها نصوصًا مقدسة.
إشراك النساء في المؤسسات الدينية، سواء كمفتِيات، أو فقيهات، أو مرشدات دينيات، بحيث لا يكون التفسير الفقهي مقتصرًا على الرجال فقط.
إن الصراع بين الفقه التقليدي والحقوق النسوية لم يعد مجرد نقاش أكاديمي، بل أصبح مسألة ملحة تؤثر على حياة ملايين النساء في العالم الإسلامي. وبينما لا تزال المؤسسات الدينية الرسمية متمسكة بالتفاسير التقليدية، فإن هناك حراكًا متزايدًا يسعى إلى إعادة قراءة النصوص بعيون جديدة، بحيث يتم التخلص من التحيزات الذكورية التي سيطرت على الفقه لقرون طويلة.
ويبقى السؤال: هل ستتمكن النساء من فرض وجودهن كمفسرات للنصوص الدينية، أم أن الفقه الإسلامي سيظل حكرًا على الرجال، مما يعني استمرار التفسيرات التي تعزز الفجوة الجندرية؟