لطالما كان الأدب مجالًا يهيمن عليه الرجال، حيث صاغوا الروايات، والقصائد، والتاريخ بأساليب تعكس رؤيتهم للعالم، بينما ظلت أصوات النساء محاصرة بين التهميش والرقابة الاجتماعية. لكن رغم هذه العوائق، استطاعت العديد من الكاتبات العربيات أن يخترقن المشهد الأدبي، ويؤسسن تيارات جديدة تضع المرأة في قلب السرد الأدبي، بعيدًا عن الصورة التقليدية التي رسمها لهن الأدب الذكوري.
لكن هل استطاعت النساء حقًا كسر هذا الاحتكار؟ وهل أصبح الأدب النسائي مساويًا للأدب الذي يكتبه الرجال، أم أن العقبات الاجتماعية والثقافية لا تزال تعرقل صعود الكاتبات؟
كيف تم تهميش النساء في السرد الأدبي؟
ظل الأدب العربي لقرون طويلة يعكس رؤية ذكورية للعالم، حيث كان يُنظر إلى المرأة في الروايات والشعر كمصدر للإلهام، أو كرمز للجمال، أو كأداة لإبراز صراعات الرجل، لكن نادرًا ما كانت هي الراوية لحكايتها الخاصة.
توضح الباحثة التونسية سعاد بن عمار، المتخصصة في الأدب العربي والجندر، أن “المرأة العربية لم تكن غائبة عن الأدب فقط، بل كانت غائبة عن تاريخ السرد نفسه. فعندما نبحث في كتب النقد الأدبي الكلاسيكية، نجد أن الكاتبات نادرًا ما كنّ يُذكرن، وكأن الأدب كان حكرًا على الرجال.”
وتضيف أن “حتى في الحالات القليلة التي برزت فيها أسماء نسائية، مثل ولادة بنت المستكفي أو الخنساء، فإن حضورهن ظل محصورًا في مجالات محدودة مثل الشعر، ولم يسمح لهن بالدخول إلى عالم الرواية أو الفلسفة أو التاريخ الأدبي.”
لم يبدأ ظهور الأدب النسائي العربي بشكل واضح إلا في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، مع صعود حركات النهضة والتحرر النسوي. وكانت مي زيادة، عائشة التيمورية، وزينب فواز من أوائل الكاتبات اللواتي تحدين الهيمنة الذكورية على الأدب، حيث كتبن نصوصًا تعبر عن قضايا المرأة، لكنها لم تلقَ دائمًا اعترافًا رسميًا.
لكن الموجة الحقيقية للأدب النسائي جاءت بعد منتصف القرن العشرين، عندما بدأت كاتبات مثل ليلى بعلبكي، نوال السعداوي، غادة السمان، وأحلام مستغانمي في كسر المحظورات الاجتماعية، والتعبير عن قضايا الجسد، والسياسة، والجنس، والقمع الأبوي، مما جعلهن يواجهن رقابة شرسة وهجومًا ثقافيًا واسعًا.
يقول الباحث المصري هشام نجيب، المختص في النقد الأدبي، إن “الأدب النسائي لم يكن مجرد تطور طبيعي، بل كان بمثابة ثورة على الذوق العام، لأن النساء عندما بدأن في الكتابة، لم يكتبن فقط عن الحب والعواطف، بل كشفن عن الظلم الاجتماعي، والنفاق الديني، والقيود الثقافية المفروضة عليهن.”
هل استطاع الأدب النسائي كسر احتكار الرجال للسرد؟
رغم صعود الكاتبات العربيات، إلا أن هناك العديد من العوائق التي لا تزال تواجه الأدب النسائي، ومن أهمها:
الرقابة الاجتماعية والسياسية: لا تزال بعض الدول العربية تمنع نشر الروايات التي تتناول موضوعات حساسة مثل الجسد، الجنس، الدين، والسياسة عندما تكتبها النساء، في حين يتم التساهل مع الرجال عند معالجتهم لهذه المواضيع.
التصنيف الأدبي المسبق: غالبًا ما يتم تصنيف كتابات النساء ضمن “الأدب النسائي”، وكأنه نوع أدبي منفصل، بينما لا يتم تصنيف كتابات الرجال تحت مسمى “الأدب الذكوري”، مما يعكس نظرة تمييزية تجاه النساء الكاتبات.
تهميش النقد الأدبي للكاتبات: في العديد من الجوائز الأدبية، لا تزال الروايات التي يكتبها الرجال تحظى بالتقدير والاعتراف النقدي أكثر من تلك التي تكتبها النساء، رغم أن الكثير من الأعمال النسائية حققت نجاحات عالمية.
الضغط على الكاتبات للكتابة وفق معايير محددة: يتم في بعض الأحيان فرض صورة معينة على الكاتبات، بحيث يُتوقع منهن الكتابة عن موضوعات نسائية فقط، مما يقيد حريتهن الأدبية ويمنعهن من الخوض في مجالات أوسع مثل الفلسفة أو الأدب السياسي.
رغم هذه العقبات، استطاعت بعض الكاتبات المعاصرات كسر القيود الثقافية، والمنافسة بقوة في المشهد الأدبي العربي والعالمي. ومن أبرز الأسماء:
جوخة الحارثي (عمان): فازت بجائزة مان بوكر العالمية عن روايتها “سيدات القمر”، مما جعلها أول كاتبة عربية تحقق هذا الإنجاز.
رجاء عالم (السعودية): حازت على جائزة البوكر العربية عن روايتها “طوق الحمام”، مما ساعد في تسليط الضوء على الأدب النسائي الخليجي.
هدى بركات (لبنان): فازت بجائزة البوكر العربية عن روايتها “بريد الليل”، وهي واحدة من أكثر الكاتبات تأثيرًا في السرد العربي المعاصر.
ميرال الطحاوي (مصر): حققت شهرة عالمية بفضل أعمالها التي تناقش الهويات المهمشة، والصراعات الطبقية والجندرية.
يقول هشام نجيب إن “هذه الأسماء تثبت أن الكاتبات العربيات لم يعدن مجرد هامش في الأدب العربي، بل أصبحن فاعلات أساسيات في المشهد الأدبي. لكن الطريق لا يزال طويلًا قبل أن يتم الاعتراف بهن بنفس مستوى الكتاب الرجال دون أي تحيزات ثقافية.”
كيف يمكن تعزيز حضور النساء في السرد الأدبي؟
لكي يصبح الأدب النسائي مساويًا لنظيره الذكوري، هناك عدة استراتيجيات يمكن تبنيها:
إعادة كتابة التاريخ الأدبي بحيث يتم تسليط الضوء على الكاتبات المنسيات، وإبراز دورهن في تشكيل السرد العربي.
دعم الجوائز الأدبية للنساء، بحيث يكون هناك تمثيل عادل للكاتبات في الجوائز المرموقة، وعدم الاكتفاء بتخصيص جوائز نسائية منفصلة.
تشجيع النقد الأدبي النسوي، بحيث يتم قراءة النصوص التي تكتبها النساء بطريقة أكثر حيادية، دون افتراض أنها مجرد انعكاس لتجاربهن الشخصية.
خلق مساحات نشر أكثر حرية، سواء عبر الصحافة، أو دور النشر المستقلة، أو المنصات الرقمية التي تعطي الكاتبات مساحة أوسع للتعبير.
رغم العقبات، فإن النساء لم يعدن مجرد شخصيات داخل الرواية، بل أصبحن كاتبات، وصانعات سرد، ومؤثرات في الأدب العربي. ومع ازدياد وعي القراء والنقاد بالدور الحقيقي للمرأة في تشكيل الثقافة، يبدو أن احتكار الرجال للسرد الأدبي لم يعد مستمرًا بنفس القوة، لكن التحدي الأكبر لا يزال قائمًا: هل يستطيع الأدب العربي أن يصبح فضاءً متساويًا للجميع، أم أن معركة النساء في السرد ستظل قائمة لسنوات قادمة؟