Spread the love

لطالما تم تقديم الطب باعتباره علمًا محايدًا يخضع للبحث والتجربة بعيدًا عن أي تحيزات، لكن الواقع يكشف أن الصحة الجندرية لا تزال تعاني من فجوات كبيرة، حيث يتم تجاهل أو تقليل أهمية المشكلات الصحية التي تواجه النساء، سواء في الأبحاث الطبية، أو التشخيص، أو العلاج، أو حتى تصميم الأدوية.

فلماذا لا تزال الصحة النسائية تعاني من التمييز؟ وهل يعود ذلك إلى نقص البيانات أم إلى انحياز مقصود؟ وما الحلول الممكنة لضمان تحقيق مساواة صحية بين الجنسين؟

على مدار التاريخ، تمحورت الأبحاث الطبية حول الرجل كنموذج أساسي، حيث اعتُبر الجسد الذكري هو “المعيار” الذي تُجرى عليه التجارب والدراسات الطبية، بينما تم التعامل مع جسد المرأة باعتباره “نسخة معدلة”، مما أدى إلى قصور كبير في فهم الأمراض التي تصيب النساء أو كيفية استجابتهن للأدوية.

تشير الباحثة اللبنانية رنا المصري، المتخصصة في الصحة الجندرية، إلى أن “الأبحاث الطبية لم تكن يومًا محايدة، فمعظم التجارب السريرية كانت تُجرى على الرجال فقط، مما جعل الكثير من العلاجات غير فعالة أو حتى خطيرة عندما يتم استخدامها من قبل النساء.”

وتضيف أن “النتيجة كانت أن النساء أصبحن أكثر عرضة للأخطاء الطبية، وسوء التشخيص، والاستهانة بأعراضهن الصحية.”

كيف يؤثر التحيز الجندري على صحة النساء؟

يظهر التمييز في الطب بعدة طرق، أبرزها:

التشخيص الخاطئ أو المتأخر للأمراض
أظهرت الدراسات أن النساء غالبًا ما يتم تشخيص أمراض القلب لديهن في مراحل متأخرة مقارنة بالرجال، لأن الأعراض لديهن تختلف عن “النموذج الذكوري” التقليدي للنوبات القلبية.
في كثير من الأحيان، يتم التعامل مع الأعراض القلبية لدى النساء على أنها مشاكل نفسية أو إجهاد بدلاً من إجراء الفحوصات الطبية اللازمة، مما يزيد من خطر الوفاة بسبب أمراض القلب.

إهمال الأبحاث الطبية للأمراض النسائية
الأبحاث المتعلقة بأمراض النساء، مثل بطانة الرحم المهاجرة (Endometriosis)، لا تحصل على تمويل كافٍ، رغم أنها تصيب ملايين النساء حول العالم وتؤثر بشكل كبير على نوعية حياتهن.
في المقابل، يتم استثمار أموال ضخمة في أبحاث متعلقة بأمراض تؤثر بشكل أساسي على الرجال، مثل أمراض القلب أو الضعف الجنسي الذكري.

الفجوة في تصميم الأدوية
تم تطوير العديد من الأدوية وفقًا لبيانات مأخوذة من تجارب على الرجال فقط، مما جعلها أقل فعالية للنساء، بل وأحيانًا خطيرة عليهن بسبب اختلاف التمثيل الغذائي بين الجنسين.
بعض الأدوية، مثل مسكنات الألم، أثبتت الدراسات أن النساء يحتجن إلى جرعات مختلفة عنها لدى الرجال، لكن هذه المعلومات لم تُؤخذ في الاعتبار عند وصف الأدوية.

عدم أخذ آلام النساء بجدية كافية
تشير الأبحاث إلى أن النساء غالبًا ما يتم التقليل من أهمية آلامهن من قبل الأطباء، حيث يُنظر إليهن على أنهن “يبالغن” في وصف الألم، مما يؤدي إلى تأخير العلاج أو منحه بطريقة غير مناسبة.
في بعض الحالات، يتم التعامل مع شكاوى النساء الصحية باعتبارها أعراضًا نفسية، مما يؤدي إلى وصف مضادات الاكتئاب بدلًا من البحث عن الأسباب الطبية الحقيقية للألم.

يقول الباحث المصري أحمد زكي، المختص في الطب الجندري، إن “النساء لا يعانين فقط من أمراض مختلفة، بل يواجهن أيضًا نظامًا طبيًا لا يأخذ مشاكلهن الصحية على محمل الجد. إن مجرد اعتبار أن جسد الرجل هو النموذج الأساسي للطب يجعل النساء أكثر عرضة للأمراض التي لا يتم تشخيصها أو علاجها بشكل صحيح.”

ما الذي يجب تغييره لتحقيق العدالة الصحية بين الجنسين؟

لضمان أن تحصل النساء على رعاية صحية متساوية وعادلة، هناك حاجة لاتخاذ عدة خطوات، منها:

إجراء أبحاث طبية تشمل النساء بفاعلية: يجب أن يتم تصميم التجارب السريرية بحيث تشمل نسبة متساوية من النساء والرجال لضمان دقة النتائج لكلا الجنسين.
تغيير طرق تشخيص الأمراض النسائية: يجب على الأطباء أن يكونوا مدربين على التعرف على الأعراض المختلفة للأمراض عند النساء والرجال، خاصة في الحالات التي تُظهر اختلافات واضحة مثل أمراض القلب.
إعادة تصميم الأدوية بناءً على بيانات جندرية: يجب أن تأخذ شركات الأدوية في الاعتبار الاختلافات البيولوجية بين الرجال والنساء عند تطوير العقاقير، بحيث تكون الأدوية أكثر أمانًا وفعالية لكلا الجنسين.
تثقيف العاملين في القطاع الصحي حول التحيز الجندري: يجب تضمين دورات تدريبية حول الجندر في كليات الطب والمستشفيات، بحيث يكون الأطباء أكثر وعيًا بالتفاوتات الصحية بين الجنسين.
زيادة التمويل لأبحاث الأمراض النسائية: تحتاج الأمراض التي تصيب النساء، مثل بطانة الرحم المهاجرة وسرطان عنق الرحم، إلى مزيد من الاستثمارات والاهتمام البحثي.

رغم التقدم الذي تم إحرازه في مجال الصحة، لا تزال النساء يواجهن تمييزًا منهجيًا في الطب، حيث يتم تجاهل أعراضهن، والتقليل من أهمية آلامهن، وتهميش مشاكلهن الصحية مقارنة بالرجال.

ويبقى السؤال: هل يمكن للمجتمع الطبي الاعتراف بهذه الفجوة الجندرية واتخاذ خطوات فعلية لسدها، أم أن صحة النساء ستظل مجرد قضية ثانوية في عالم الطب الحديث؟

error: Content is protected !!