Spread the love

مع تصاعد الحاجة إلى الطاقة النظيفة، تتزايد الضغوط على الصناعات لاستخدام تقنيات مستدامة تعتمد على مصادر طاقة أقل تلويثاً للبيئة. في قلب هذه التحولات، ظهرت المعادن النادرة مثل الليثيوم، والكوبالت، والنيكل، بوصفها الموارد الأساسية لتصنيع بطاريات السيارات الكهربائية، وتخزين الطاقة الشمسية، وإنتاج الإلكترونيات الصديقة للبيئة. لكن خلف هذه الطفرة التكنولوجية، يتوارى جانب مظلم من القصة، حيث تثير عمليات استخراج هذه المعادن مخاوف بيئية واجتماعية لا تقل خطورة عن التلوث الناجم عن الوقود الأحفوري. فهل تمثل المعادن الخضراء حلاً مستداماً أم أنها مجرد بديل آخر لصناعة ملوثة؟

تشير تقديرات “وكالة الطاقة الدولية” إلى أن الطلب العالمي على الليثيوم والكوبالت والنيكل قد يرتفع بنسبة 500% بحلول عام 2050، بسبب الحاجة المتزايدة إلى تصنيع بطاريات السيارات الكهربائية وتخزين الطاقة المتجددة. الصين، التي تعد المنتج الأكبر لهذه المعادن، تهيمن على أكثر من 60% من عمليات التكرير العالمية، بينما تمتلك دول مثل أستراليا، وجمهورية الكونغو الديمقراطية، وتشيلي، أهم المناجم التي تزود السوق العالمي بهذه المعادن.

لكن هذه الهيمنة لا تخلو من أزمات سياسية واقتصادية، حيث أدى تزايد الطلب على هذه الموارد إلى منافسة شرسة بين القوى العالمية، ما جعل بعض الدول تتخذ قرارات استراتيجية للسيطرة على إمداداتها. في الولايات المتحدة، تبنّت إدارة بايدن سياسات لدعم الصناعات المحلية الخاصة باستخراج المعادن النادرة، بينما تسعى أوروبا إلى تقليل اعتمادها على الصين عبر تطوير مناجم جديدة داخل القارة.

يقول الدكتور أيمن الحداد، الباحث في الاقتصاد البيئي بجامعة بيرزيت، إن “المعادن الخضراء أصبحت العنصر الأهم في صراع القوى العالمية حول مستقبل الطاقة، لكن المشكلة تكمن في أن الدول المنتجة للمواد الخام غالباً ما تكون الأكثر تضرراً بيئياً، في حين تستفيد الدول الصناعية الكبرى من هذه الموارد دون تحمل تكلفة التلوث الناجم عن استخراجها”.

الجانب المظلم: كيف يدمّر استخراج المعادن البيئة؟

رغم أن المعادن الخضراء تساهم في الحد من الانبعاثات الكربونية، فإن عمليات استخراجها تشكل تهديداً بيئياً هائلاً، حيث تتسبب المناجم في إزالة الغابات، وتلوث المياه الجوفية، وتدمير النظم البيئية المحيطة بها. في جمهورية الكونغو الديمقراطية، التي تنتج أكثر من 70% من الكوبالت العالمي، تتعرض الأراضي الزراعية للتلوث بسبب المخلفات الكيميائية الناتجة عن عمليات التعدين، ما يؤدي إلى تدهور التربة ونفوق الحياة البرية في المناطق المحيطة بالمناجم.

في أمريكا الجنوبية، تواجه تشيلي والأرجنتين تحديات بيئية كبيرة بسبب استخراج الليثيوم من البحيرات المالحة، حيث تحتاج هذه العملية إلى كميات ضخمة من المياه، ما يؤدي إلى تفاقم مشكلات الجفاف في المناطق القاحلة. تشير تقارير “منظمة العفو الدولية” إلى أن عمليات التعدين في هذه الدول تستهلك أكثر من 65% من الموارد المائية في بعض المناطق، ما يتسبب في أزمات حادة للسكان المحليين الذين يعتمدون على هذه المياه للشرب والزراعة.

الدكتورة ليلى صابر، الخبيرة في الموارد الطبيعية بجامعة مسقط، ترى أن “استخراج المعادن النادرة يشكل خطراً على النظم البيئية، خاصة عندما يتم بدون رقابة صارمة. رغم أن هذه المعادن تُستخدم في تقنيات الطاقة النظيفة، إلا أن أساليب استخراجها لا تزال تعتمد على عمليات شديدة التلويث، ما يجعلها حلاً غير مكتمل لمستقبل مستدام”.

إلى جانب الأضرار البيئية، تبرز قضية أخرى تتعلق بظروف العمل القاسية التي يعاني منها عمال المناجم في بعض الدول النامية. في الكونغو، حيث يعمل عشرات الآلاف من الأطفال في مناجم الكوبالت تحت ظروف شديدة القسوة، أصبحت هذه الصناعة مرادفاً للاستغلال البشري. تشير تقارير “منظمة العمل الدولية” إلى أن أكثر من 40 ألف طفل يعملون في مناجم الكوبالت بجمهورية الكونغو، حيث يتعرضون لمخاطر صحية خطيرة بسبب التعرض المستمر للمواد السامة.

في بوليفيا وتشيلي، يواجه عمال مناجم الليثيوم صعوبات مماثلة، حيث يعملون في بيئات شديدة الحرارة، ويتعرضون لمواد كيميائية خطرة، دون توفر حماية كافية. الدكتور جمال فخري، الباحث في حقوق العمال بجامعة تونس، يرى أن “شركات التكنولوجيا الكبرى التي تعتمد على هذه المعادن تتحمل مسؤولية أخلاقية تجاه العمال الذين ينتجون المواد الخام. لا يمكن الحديث عن طاقة نظيفة ومستدامة إذا كانت صناعتها مبنية على استغلال البشر وتدمير البيئات المحلية”.

هل هناك بدائل؟ البحث عن تقنيات تعدين مستدامة

أمام هذه التحديات، بدأ البحث عن حلول بديلة لتقليل الآثار السلبية لاستخراج المعادن النادرة. إحدى التقنيات التي يجري تطويرها هي “التعدين الأخضر”، الذي يعتمد على أساليب أقل تلويثاً، مثل استخدام البكتيريا في استخراج المعادن من الصخور بدلاً من المواد الكيميائية الضارة. كما يتم اختبار طرق جديدة لإعادة تدوير بطاريات الليثيوم والكوبالت، بهدف تقليل الحاجة إلى التعدين.

في اليابان، تعمل شركات على تطوير أنظمة لاستخراج المعادن النادرة من النفايات الإلكترونية، حيث تشير الدراسات إلى أن الهواتف المحمولة وأجهزة الكمبيوتر القديمة تحتوي على كميات كبيرة من الليثيوم والكوبالت، يمكن إعادة استخدامها بدلاً من التنقيب عن معادن جديدة. في أوروبا، يجري اختبار تقنيات تعتمد على استخراج المعادن من قاع المحيطات، لكن هذه الطريقة لا تزال محل جدل بسبب مخاطرها المحتملة على النظم البيئية البحرية.

يقول الدكتور نادر الطهراوي، أستاذ الهندسة البيئية بجامعة الجزائر، إن “البحث عن تقنيات تعدين مستدامة هو الخطوة الأهم نحو تقليل التأثير البيئي لصناعة الطاقة النظيفة. إذا لم يتم تطوير أساليب أكثر أماناً لاستخراج المعادن النادرة، فإن التحول إلى الطاقة المتجددة قد يكون مجرد استبدال لتلوث بآخر”.

رغم التحديات الكبيرة التي تواجه صناعة المعادن النادرة، فإن الحاجة إليها لن تتراجع في المستقبل القريب، بل من المتوقع أن تتضاعف مع تزايد الاعتماد على السيارات الكهربائية والطاقة الشمسية وتقنيات تخزين الطاقة. لكن السؤال المطروح اليوم هو: هل يمكن تحقيق توازن بين الحاجة إلى هذه المعادن وحماية البيئة والعمال الذين يساهمون في إنتاجها؟

حتى الآن، لا تزال الدول الغنية هي المستفيد الأكبر من الطفرة الخضراء، بينما تتحمل الدول الفقيرة العبء البيئي والاجتماعي لعملية استخراج المعادن. في غياب تشريعات صارمة ومراقبة دولية حقيقية، قد تتحول المعادن النادرة من كونها حلاً مستداماً للطاقة النظيفة إلى مشكلة بيئية جديدة تهدد توازن الكوكب. فهل يكون المستقبل أكثر عدالة، أم أن الجشع الصناعي سيظل هو المحرك الأساسي لهذه الصناعة؟

error: Content is protected !!