لطالما كانت الذكورة في المجتمعات العربية مرتبطة بمعايير صارمة، حيث يُتوقع من الرجال أن يكونوا مسيطرين، أقوياء، قادرين على الإنفاق، وألا يظهروا ضعفهم أو مشاعرهم. لكن في الوقت الذي يُنظر فيه إلى هذه المعايير على أنها تمنح الرجال سلطة اجتماعية، فإنها في الحقيقة تضعهم في قوالب صلبة تقيدهم نفسيًا وعاطفيًا. فالذكورة التقليدية لا تؤثر فقط على النساء عبر فرض هياكل ذكورية قمعية، بل تؤثر أيضًا على الرجال أنفسهم، مما يخلق نظامًا مزدوجًا من القمع الذكوري يضر بجميع الأطراف.
لكن هل يدرك الرجال في المجتمعات الذكورية حجم الضغوط التي يفرضها عليهم هذا النظام؟ وهل يمكن للذكورة أن تتحرر من هذه القوالب دون أن تُنظر إلى ذلك على أنه “ضعف”؟
كيف تشكلت الذكورة الهشة؟
منذ الطفولة، يتم تعليم الفتيان أن هناك طريقة محددة ليكونوا “رجالًا حقيقيين”، حيث يتم تربيتهم على كبت مشاعرهم، وتجنب التعبير عن الضعف، وتحمل الأعباء المالية والاجتماعية بدون شكوى.
توضح الباحثة الجزائرية ليلى بن عمر، المتخصصة في علم النفس الاجتماعي، أن “الذكورة الهشة ليست فقط نتيجة للثقافة العربية، بل هي جزء من نظام عالمي يعزز فكرة أن الرجل يجب أن يكون صلبًا، وأي خروج عن هذا النموذج يعتبر نقصًا في الرجولة.”
وتضيف أن “المشكلة تكمن في أن هذه الذكورة لا تمنح الرجال حرية حقيقية، بل تضعهم تحت ضغط دائم لإثبات أنفسهم أمام المجتمع، مما يجعلهم يشعرون بالخوف من الفشل أو الظهور بمظهر ضعيف.”
يمكن ملاحظة الذكورة الهشة في العديد من الجوانب الاجتماعية، مثل:
الخوف من التعبير عن المشاعر: لا يزال يُنظر إلى الرجل الذي يعبر عن مشاعره على أنه “ضعيف” أو “ليس رجوليًا بما يكفي”.
الضغط الاقتصادي والاجتماعي: يُتوقع من الرجال أن يكونوا المعيلين الرئيسيين، مما يضعهم تحت ضغوط مالية هائلة، خاصة في ظل الأزمات الاقتصادية.
رفض الأعمال المنزلية: في بعض المجتمعات، يعتبر الرجل الذي يساعد في الأعمال المنزلية “فاقدًا لرجولته”، مما يعكس خوفًا داخليًا من كسر الصورة النمطية للذكورة.
الخوف من خسارة الهيمنة على النساء: في كثير من الحالات، يرفض الرجال تمكين النساء اقتصاديًا أو اجتماعيًا لأن ذلك يهدد مكانتهم التقليدية في المجتمع.
العنف كوسيلة لإثبات الرجولة: تشير الدراسات إلى أن الرجال الذين يشعرون بتهديد لمكانتهم الذكورية هم الأكثر ميلًا لاستخدام العنف، سواء في العلاقات الزوجية أو في المجال العام.
يقول الباحث المغربي سامي زكريا، المتخصص في علم الاجتماع الجندري، إن “الرجل في المجتمع العربي يشعر بأنه محاصر بين صورتين متناقضتين: من جهة، يُطلب منه أن يكون قائدًا ومسؤولًا عن الجميع، ومن جهة أخرى، يتم انتقاده إذا فشل في تلبية هذه التوقعات. هذا يخلق حالة من عدم الأمان النفسي التي تؤدي إلى ردود فعل عدوانية أحيانًا.”
كيف تؤثر الذكورة الهشة على الرجال أنفسهم؟
رغم أن الرجال هم المستفيدون الأساسيون من النظام الأبوي، فإنهم في الوقت ذاته ضحايا له، حيث تؤدي التوقعات الذكورية إلى مشكلات خطيرة، مثل:
ارتفاع معدلات الاكتئاب والانتحار بين الرجال: تشير الدراسات إلى أن الرجال أقل عرضة لطلب المساعدة النفسية، لأنهم يرون في ذلك ضعفًا.
غياب العلاقات العاطفية العميقة: لأن التعبير عن المشاعر يُعتبر أمرًا غير رجولي، يجد الكثير من الرجال صعوبة في بناء علاقات صادقة وعاطفية مع شركائهم أو حتى مع أصدقائهم.
الضغط الاقتصادي المفرط: يُتوقع من الرجل أن يكون هو المعيل الأساسي، مما يجعله يشعر بالإرهاق الدائم والخوف من الفشل المالي.
القلق من الصورة الذكورية: الكثير من الرجال يشعرون بأنهم بحاجة إلى إثبات رجولتهم بشكل مستمر، سواء من خلال التباهي بالممتلكات، أو التحكم في النساء، أو ممارسة العنف.
يقول سامي زكريا: “المجتمع لا يسمح للرجل بأن يكون ضعيفًا، حتى في لحظات الانهيار. ولهذا، عندما يواجه الرجل أزمة، فإنه غالبًا ما يلجأ إلى العنف أو العزلة بدلًا من البحث عن دعم نفسي أو عاطفي.”
كيف يمكن التخلص من الذكورة الهشة؟
لتحقيق تغيير حقيقي في فهم الذكورة، يجب أن يكون هناك وعي بأن التحرر من القوالب الذكورية لا يعني فقدان الرجولة، بل يعني استعادة الحرية الحقيقية في تحديد هوية الرجل بعيدًا عن الضغوط الاجتماعية.
إعادة تعريف الرجولة: يجب أن ننتقل من نموذج “الرجل القوي الذي لا يظهر ضعفًا” إلى نموذج يسمح للرجل بأن يكون عاطفيًا، متعاونًا، وغير مضطر لإثبات شيء لأحد.
كسر الصور النمطية في التربية: يجب تعليم الأطفال أن المشاعر ليست حكرًا على النساء، وأن الرجل ليس مضطرًا لحمل جميع المسؤوليات بمفرده.
تشجيع الدعم النفسي للرجال: يجب أن يكون هناك وعي بأن الذهاب إلى العلاج النفسي أو طلب المساعدة ليس علامة ضعف، بل دليل على النضج العاطفي.
تقاسم الأدوار بين الجنسين: يجب إنهاء فكرة أن الرجل وحده مسؤول عن إعالة الأسرة، وتشجيع توزيع أكثر عدالة للمسؤوليات الاقتصادية والاجتماعية داخل العائلة.
في النهاية، الذكورة الهشة ليست مجرد مشكلة للنساء اللواتي يعانين من آثارها، بل هي إشكالية يعاني منها الرجال أنفسهم، حيث تجعلهم أسرى لصورة نمطية لا تعكس حقيقة الإنسان بقدر ما تعكس قيود المجتمع عليه. التحرر من هذه القيود لا يعني إضعاف الرجولة، بل يعني إعادة تعريفها بطريقة أكثر إنسانية، بحيث يصبح الرجل قادرًا على العيش بحرية بعيدًا عن الضغوط الاجتماعية التي تفرض عليه كيف يفكر، وكيف يتصرف، وكيف يشعر.
ويبقى السؤال: هل يمكن للمجتمعات العربية أن تعيد النظر في مفهوم الذكورة بطريقة أكثر مرونة، أم أن الخوف من كسر التقاليد سيبقى حاجزًا أمام هذا التغيير؟