Spread the love

مع تزايد أزمات الجفاف والتغير المناخي والتلوث، بدأت المياه العذبة تتحول من مورد متجدد إلى سلعة استراتيجية نادرة. وفقًا لتقارير الأمم المتحدة، يعاني أكثر من 2.3 مليار شخص حول العالم من نقص في المياه الصالحة للشرب، ويتوقع أن يرتفع هذا الرقم بشكل حاد خلال العقود القادمة مع تزايد عدد السكان وتراجع مصادر المياه الطبيعية.

في ظل هذه الأزمة، بدأت بعض الدول في خصخصة المياه، وظهرت بورصات لتداول المياه على غرار النفط والذهب، مما يطرح تساؤلات خطيرة: هل نحن أمام مستقبل تصبح فيه المياه أكثر قيمة من النفط؟ وهل ستؤدي ندرة المياه إلى صراعات جيوسياسية بين الدول؟

كيف تحولت المياه إلى أزمة عالمية؟

رغم أن 71% من سطح الأرض مغطى بالمياه، إلا أن أقل من 3% فقط منها عذبة، ومعظمها محجوز في الجليد القطبي أو غير متاح بسهولة. وقد تفاقمت أزمة المياه بسبب عدة عوامل رئيسية:

التغير المناخي: أدى ارتفاع درجات الحرارة إلى تبخر كميات ضخمة من المياه، وتسبب في انخفاض مستويات البحيرات والأنهار.
الزراعة والصناعة: يستهلك القطاع الزراعي وحده 70% من المياه العذبة العالمية، بينما تستخدم الصناعات الثقيلة كميات هائلة من المياه دون استدامة.
التلوث ونقص الإدارة الجيدة: أدت النفايات الصناعية والمبيدات الزراعية إلى تلوث العديد من مصادر المياه، مما جعلها غير صالحة للاستخدام البشري.

يقول زياد القاسمي، خبير إدارة الموارد المائية، إن “المشكلة ليست فقط في نقص المياه، بل في سوء إدارتها. الكثير من الدول لديها موارد مائية كافية لكنها تعاني من الهدر والتلوث، مما يجعلها تواجه خطر العطش في المستقبل القريب”.

هل تتحول المياه إلى سلعة تُباع في الأسواق؟

مع تفاقم الأزمة، بدأت بعض الشركات والدول تحويل المياه العذبة إلى سلعة اقتصادية تُباع وتُشترى مثل النفط والذهب. ففي عام 2020، أطلقت بورصة “وول ستريت” في الولايات المتحدة عقودًا مستقبلية لتداول المياه، مما أثار جدلًا واسعًا حول ما إذا كان يجب اعتبار المياه حقًا إنسانيًا أم منتجًا تجاريًا.

في بعض الدول، مثل أستراليا وكاليفورنيا، أصبحت الشركات الكبرى تشتري حقوق المياه، وتبيعها بأسعار مرتفعة خلال فترات الجفاف، مما تسبب في ارتفاع الأسعار بشكل كبير، وجعل الفقراء غير قادرين على تحمل تكاليف المياه الأساسية.

يؤكد جمال البدري، الباحث في السياسات البيئية، أن “تحويل المياه إلى سلعة تجارية قد يؤدي إلى كارثة إنسانية. إذا أصبح الوصول إلى المياه يعتمد على القدرة المالية، فإن الفئات الفقيرة ستكون الأكثر تضررًا، وقد نرى اضطرابات اجتماعية نتيجة ذلك”.

لطالما كانت المياه سببًا للنزاعات بين الدول، لكن مع ازدياد ندرتها، هناك تحذيرات من أن الحروب القادمة ستكون حول المياه بدلاً من النفط. بعض المناطق التي تشهد توترات مائية خطيرة تشمل:

الشرق الأوسط: حيث أدى بناء سد النهضة الإثيوبي إلى تصاعد التوتر بين إثيوبيا، مصر، والسودان، وسط مخاوف من تأثيره على تدفق مياه نهر النيل.
جنوب آسيا: حيث يشهد النزاع بين الهند وباكستان خلافات حادة حول تقاسم مياه نهر السند.
أفريقيا: حيث أدى جفاف بحيرة تشاد إلى صراعات بين المزارعين ورعاة الماشية حول الموارد المتناقصة.

يقول أمين الخالدي، المحلل في قضايا الأمن المائي، إن “المياه أصبحت عنصرًا رئيسيًا في الصراعات الجيوسياسية، ومن المرجح أن تؤدي ندرتها إلى نزاعات داخلية ودولية إذا لم يتم إيجاد حلول مستدامة”.

رغم أن أزمة المياه تبدو متفاقمة، إلا أن هناك حلولًا يمكن أن تساعد في إدارة الموارد المائية بشكل أكثر استدامة، ومن بينها:

تحلية مياه البحر: رغم أنها مكلفة، فإنها أصبحت حلًا رئيسيًا في دول الخليج، مثل الإمارات والسعودية، حيث يتم تحلية كميات ضخمة من مياه البحر لتلبية الاحتياجات المحلية.
تقنيات إعادة تدوير المياه: مثل استخدام مياه الصرف الصحي المعالجة في الزراعة والصناعة، كما تفعل سنغافورة وإسرائيل.
تحديث أنظمة الري: مثل استخدام الري بالتنقيط لتقليل هدر المياه في الزراعة.
تشريعات لحماية الموارد المائية: مثل فرض ضرائب على الاستهلاك غير المستدام، وفرض غرامات على الشركات التي تلوث مصادر المياه.

هل ستصبح المياه أغلى من النفط؟

مع استمرار التغير المناخي وزيادة الطلب العالمي، هناك مخاوف حقيقية من أن المياه قد تصبح أغلى من النفط في بعض المناطق. في بعض الدول التي تعاني من ندرة المياه، مثل الإمارات وقطر، يبلغ سعر المياه بالفعل أكثر من سعر البنزين بسبب الحاجة إلى تحليتها.

إذا لم يتم اتخاذ إجراءات فعالة لحماية الموارد المائية، فقد نصل إلى سيناريو يصبح فيه المياه سلعة نادرة تتحكم فيها الشركات الكبرى، وتُباع بأسعار مرتفعة لا يستطيع الجميع تحملها.

يبدو أن العالم مقبل على عصر جديد من الأزمات المائية، حيث ستصبح المياه محورًا رئيسيًا للسياسات البيئية والاقتصادية والأمنية. لكن يبقى السؤال الأساسي:

هل سيتم التعامل مع المياه كحق أساسي للجميع، أم أنها ستتحول إلى سلعة تجارية يتحكم فيها رأس المال؟

إذا لم يتم إدارة الموارد المائية بحكمة، فقد نجد أنفسنا في عالم تنشب فيه صراعات من أجل كل قطرة ماء، مما يجعل هذه الأزمة أكبر تحدٍ يواجه البشرية في القرن الحادي والعشرين.

error: Content is protected !!