Spread the love

في الوقت الذي ترتفع فيه الأصوات المحذّرة من كارثة بيئية عالمية، تستمر حرائق الغابات في التهام ملايين الهكتارات سنوياً، مهددة النظم البيئية، ومساهمة في تفاقم أزمة المناخ عبر إطلاق كميات هائلة من الكربون في الغلاف الجوي. وعلى الرغم من أن بعض هذه الحرائق تحدث نتيجة للظواهر الطبيعية مثل البرق والجفاف، فإن نسبة كبيرة منها تعود إلى التدخل البشري، سواء من خلال قطع الأشجار غير القانوني، أو توسيع المساحات الزراعية على حساب الغابات، أو حتى إشعال النيران عمداً لأغراض تجارية. فهل تحترق الغابات بسبب تغير المناخ وحده، أم أن الجشع الصناعي يقف وراء هذه الكارثة؟

تشير بيانات “منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة” (الفاو) إلى أن العالم يفقد ما يقارب 10 ملايين هكتار من الغابات سنوياً، أي ما يعادل مساحة دولة بحجم البرتغال تختفي كل عام تحت تأثير الحرائق وإزالة الأشجار. في عام 2023 وحده، شهدت الولايات المتحدة وكندا وأستراليا وأمريكا الجنوبية واحدة من أسوأ مواسم الحرائق في التاريخ الحديث، حيث التهمت النيران ملايين الأفدنة، وأجبرت آلاف السكان على إخلاء منازلهم.

في منطقة الأمازون، التي تُعرف بأنها “رئة العالم”، أصبح معدل إزالة الغابات مقلقاً، حيث تشير التقارير إلى أن أكثر من 17% من غابات الأمازون قد دُمرت خلال العقود الأربعة الماضية، معظمها بسبب الحرائق المرتبطة بعمليات توسع المزارع وزراعة فول الصويا وتربية المواشي.

أما في أوروبا، فقد شهدت إسبانيا واليونان وإيطاليا حرائق غير مسبوقة خلال السنوات الأخيرة، ما أدى إلى ارتفاع مستويات التلوث، وتهديد التنوع البيولوجي، وتدمير آلاف الهكتارات من المحميات الطبيعية. في إفريقيا، لم تكن الحرائق أقل خطورة، حيث تعاني غابات الكونغو من زيادة كبيرة في الحرائق المرتبطة بقطع الأشجار غير القانوني، وهو ما يهدد النظام البيئي في واحدة من أكبر الغابات الاستوائية في العالم.

يقول الدكتور أحمد زيدان، أستاذ البيئة والتغير المناخي بجامعة عجمان، إن “التغير المناخي يزيد من احتمالية حدوث الحرائق، لكن هذا لا يعني أن البشر أبرياء من الكارثة. كثير من هذه الحرائق يتم إشعالها بشكل متعمد أو نتيجة لإهمال بشري، إما بغرض توسيع الأراضي الزراعية أو لإنتاج الفحم النباتي الذي يعتبر تجارة مربحة في العديد من الدول النامية”.

الصناعة الزراعية: كيف تساهم في تدمير الغابات؟

على الرغم من أن الزراعة هي أساس الحضارات البشرية، إلا أن بعض الممارسات الزراعية أصبحت اليوم من أكبر أسباب إزالة الغابات في العالم. تشير تقارير منظمة “السلام الأخضر” (Greenpeace) إلى أن حوالي 80% من عمليات إزالة الغابات في الأمازون مرتبطة بصناعة اللحوم، حيث يتم قطع الأشجار وحرق الأراضي لإنشاء مزارع لتربية الأبقار، التي تُستخدم لحومها في الأسواق العالمية.

في جنوب شرق آسيا، تواجه غابات إندونيسيا وماليزيا خطر الزوال بسبب زراعة نخيل الزيت، الذي يُستخدم في إنتاج زيت النخيل الموجود في مئات المنتجات الاستهلاكية، من الأغذية إلى مستحضرات التجميل. هذه المزارع تعتمد بشكل كبير على إشعال الحرائق لإزالة الغابات، مما يؤدي إلى إطلاق كميات هائلة من ثاني أكسيد الكربون في الجو، متسببة في واحدة من أكبر الأزمات البيئية في العالم.

يؤكد الدكتور سامر جادو، الباحث في السياسات البيئية بجامعة قفصة، أن “الطلب المتزايد على المنتجات الزراعية، خاصة فول الصويا وزيت النخيل، يدفع الشركات الكبرى إلى إزالة الغابات بطرق غير مستدامة. المشكلة ليست فقط في الحرائق، بل أيضاً في فقدان التنوع البيولوجي، حيث يتم تدمير موائل الحيوانات والنباتات النادرة التي لا يمكن تعويضها”.

في العديد من الدول، أصبحت الحرائق وسيلة لتحقيق مكاسب اقتصادية، حيث تلجأ بعض الشركات إلى إشعال النيران في الغابات من أجل إخلاء الأراضي لاستخدامها في مشاريع زراعية أو صناعية. في البرازيل، كشفت تحقيقات صحفية أن بعض شركات اللحوم الكبرى مرتبطة بعمليات إزالة الغابات غير القانونية، من خلال عقود مع مزارعين يقومون بإشعال الحرائق من أجل تحويل الغابات إلى مراعٍ للأبقار.

في إندونيسيا، أظهرت تقارير أن بعض الشركات المنتجة لزيت النخيل تتعمد إشعال الحرائق بشكل ممنهج لزيادة مساحة المزارع، متجاهلة الأضرار البيئية الكارثية التي تسببها هذه الممارسات. ورغم أن العديد من الدول فرضت قوانين لحماية الغابات، إلا أن ضعف الرقابة والفساد يسمحان للشركات بمواصلة هذه العمليات دون عقاب حقيقي.

يقول الدكتور جمال نصار، الخبير في القانون البيئي بجامعة مراكش، إن “إزالة الغابات ليست مجرد قضية بيئية، بل هي أيضاً قضية عدالة اجتماعية. في العديد من الدول النامية، يتم تدمير الغابات على حساب المجتمعات المحلية التي تعتمد عليها في حياتها اليومية، بينما تستفيد الشركات الكبرى من هذه الموارد دون تحمل أي مسؤولية قانونية”.

مبادرات لإنقاذ الغابات: هل هناك أمل؟

رغم حجم الكارثة، هناك جهود متزايدة لحماية الغابات وإعادة تشجير المناطق المتضررة. في البرازيل، تبنت الحكومة الجديدة سياسات أكثر صرامة لحماية الأمازون، عبر فرض غرامات على الشركات المتورطة في إزالة الغابات، وإطلاق حملات لإعادة التشجير. في الهند، تم تنفيذ أكبر مشروع لإعادة التشجير في العالم، حيث تمت زراعة أكثر من 66 مليون شجرة في يوم واحد، كجزء من خطة وطنية لمكافحة التغير المناخي.

في إفريقيا، بدأت مبادرة “السور الأخضر العظيم”، التي تهدف إلى زراعة ملايين الأشجار عبر الصحراء الكبرى، للحد من زحف الصحراء وتعزيز الأمن البيئي. كما تعمل منظمات بيئية دولية على إطلاق مشاريع لحماية الغابات المطيرة، من خلال دعم المجتمعات المحلية، وتشجيع استخدام الزراعة المستدامة، وتقليل الاعتماد على المنتجات التي تتسبب في إزالة الغابات.

لكن رغم هذه المبادرات، يرى الخبراء أن الجهود الحالية لا تزال غير كافية لوقف نزيف الغابات، حيث تحتاج الدول إلى سياسات أكثر جرأة، تشمل فرض قيود صارمة على الشركات التي تعتمد على إزالة الغابات، وتطوير أنظمة رقابة قوية تمنع استخدام الحرائق كأداة للتوسع الزراعي.

يقول الدكتور فائز جمعة، أستاذ التنمية المستدامة بجامعة الجزائر، إن “الحل لا يكمن فقط في إعادة التشجير، بل في تغيير النموذج الاقتصادي الذي يعتمد على استغلال الغابات لتحقيق الأرباح. إذا لم يتم اتخاذ إجراءات حازمة، فإن العالم سيفقد مساحات شاسعة من الغابات خلال العقود القادمة، ما سيؤدي إلى كارثة مناخية لا رجعة فيها”.

حرائق الغابات ليست مجرد كوارث طبيعية، بل هي في كثير من الأحيان نتيجة مباشرة لجشع الصناعات الكبرى التي تستفيد من تدمير الموارد الطبيعية لتحقيق أرباح سريعة. وبينما تتجه بعض الدول إلى فرض قيود أقوى لحماية الغابات، لا تزال العديد من الحكومات تغض الطرف عن هذه الممارسات، ما يجعل مستقبل الغابات مهدداً أكثر من أي وقت مضى.

السؤال المطروح اليوم هو: هل يمكن أن يتحرك العالم بشكل جاد لإنقاذ الغابات قبل فوات الأوان، أم أن المصالح الاقتصادية ستظل أقوى من أي محاولات للحفاظ على “رئة الأرض”؟

error: Content is protected !!