تشكل الانتخابات البرلمانية في الكويت حدثًا مفصليًا ليس فقط على المستوى المحلي، بل أيضًا على مستوى المشهد الخليجي الأوسع، حيث تمثل نموذجًا ديمقراطيًا فريدًا في منطقة يغلب عليها النمط السلطوي في الحكم. هذه الانتخابات التي تُجرى للمرة الرابعة منذ عام 2020 تأتي في ظل تحولات سياسية حساسة، بعد تولي الشيخ مشعل الأحمد الصباح مقاليد الحكم، ومع استمرار حالة الجمود السياسي بين السلطتين التنفيذية والتشريعية التي أعاقت برامج الإصلاح الاقتصادي وأثرت على قدرة الدولة في تنفيذ خططها التنموية.
لكن، بعيدًا عن التحدي التقني المتمثل في عملية الاقتراع وإدارة الانتخابات، يبقى التساؤل الأهم: هل ستكون هذه الانتخابات بداية مرحلة جديدة من الاستقرار السياسي، أم أنها مجرد حلقة جديدة في مسلسل التأزيم الذي عانى منه النظام السياسي الكويتي لعقود؟
اللافت في المشهد السياسي الكويتي هو الوتيرة المتسارعة لحل البرلمانات وإجراء الانتخابات المبكرة، حيث تمثل هذه الانتخابات رابع استحقاق برلماني منذ عام 2020، ما يعكس حالة عدم الاستقرار السياسي المستمرة منذ سنوات. ورغم تمتع الكويت بقدر من الديمقراطية مقارنة بجيرانها الخليجيين، إلا أن العلاقة المتوترة بين البرلمان والحكومة تحولت إلى سمة دائمة تعرقل الأداء السياسي والاقتصادي على حد سواء.
لطالما كان مجلس الأمة الكويتي يتمتع بصلاحيات تشريعية واسعة، ما جعله قادرًا على استجواب الوزراء وحتى سحب الثقة منهم، وهو ما أدى في العديد من الحالات إلى استقالات حكومية متكررة، أحدثها حكومة الشيخ أحمد النواف. وبالتالي، فإن الأزمة الأساسية لا تتعلق فقط بنتائج الانتخابات، بل في قدرة الحكومة على إدارة العلاقة مع البرلمان بشكل أكثر فاعلية.
يعتمد النظام الانتخابي الكويتي على نظام الصوت الواحد، الذي يعني أن كل ناخب يختار مرشحًا واحدًا فقط، وهو نظام أثار الكثير من الجدل منذ اعتماده عام 2012، حيث يرى بعض المحللين أنه يضعف العمل السياسي الجماعي ويزيد من نفوذ الأفراد على حساب التكتلات السياسية. كما أن الإقبال على التصويت، رغم كونه مرتفعًا نسبيًا، إلا أن حالة الإحباط السياسي المتكررة قد تؤثر على الحماس الشعبي، مما يجعل نسبة المشاركة مسألة ذات دلالات سياسية عميقة.
تشير التوقعات إلى أن الملفات الاقتصادية ستكون أولوية قصوى للبرلمان الجديد، خاصة بعد سنوات من الجمود بسبب التوترات السياسية بين السلطتين التنفيذية والتشريعية. وبينما تدرك القيادة الكويتية الجديدة ضرورة تحديث الاقتصاد وتقليل الاعتماد على النفط، فإن تنفيذ هذه الرؤية يتطلب تعاونًا سياسيًا لم يكن متوفرًا في السابق.
الكويت من الدول القليلة التي لا تزال تعتمد بشكل شبه كامل على إيرادات النفط، وهو ما يجعلها أكثر عرضة للتذبذبات الاقتصادية مقارنة بدول خليجية أخرى مثل السعودية والإمارات التي قطعت خطوات متقدمة في تنويع اقتصاداتها. لكن المشاريع الاقتصادية الكبرى مثل قانون الدين العام، وخصخصة بعض القطاعات، وزيادة الضرائب لا تزال تواجه مقاومة داخل البرلمان، حيث يخشى النواب من اتخاذ قرارات قد تكون غير شعبية بين المواطنين.
تعد الكويت واحدة من أقل دول الخليج جذبًا للاستثمارات الأجنبية، بسبب البيروقراطية، وتعثر الإصلاحات، وغياب رؤية موحدة بين الحكومة والبرلمان. ومن المتوقع أن تكون المرحلة القادمة اختبارًا حقيقيًا لمدى قدرة السلطة الجديدة على تجاوز هذه العراقيل، حيث يُنظر إلى الإصلاحات الاقتصادية كأحد المعايير الرئيسية لنجاح الإدارة السياسية الجديدة.
باعتبارها عضوًا في مجلس التعاون الخليجي ومنتجًا رئيسيًا للنفط، لا يمكن فصل الكويت عن التحديات الجيوسياسية المحيطة بها، والتي تؤثر بشكل مباشر على خياراتها الداخلية، سواء من حيث السياسات الأمنية أو الاقتصادية.
رغم التزام الكويت بسياسة الحياد النسبي في العديد من القضايا الإقليمية، إلا أن التغيرات التي طرأت على المشهد الخليجي، مثل التقارب السعودي-الإيراني، والحرب في غزة، والتوترات في البحر الأحمر، قد تدفع الكويت إلى إعادة تقييم دورها الإقليمي ومواءمته مع سياستها الداخلية. ويبرز هنا التساؤل حول مدى قدرة القيادة الكويتية الجديدة على تحقيق توازن بين الإصلاحات الداخلية والموقف الخارجي، لا سيما مع تنامي الضغوط الدولية فيما يخص بعض الملفات مثل حرية الصحافة وحقوق الإنسان.
الكويت، ورغم استقرارها النسبي، لا تزال تواجه تهديدات أمنية غير مباشرة، خاصة مع استمرار الاضطرابات في العراق وإيران واليمن. هذا الوضع يجعل من تعزيز الأمن الداخلي ضرورة أساسية للمرحلة المقبلة، خاصة في ظل محاولات بعض الأطراف استغلال الخلافات السياسية الداخلية لتعزيز حالة الانقسام.
مع تولي الشيخ مشعل الأحمد الصباح السلطة، تبدو الكويت مقبلة على مرحلة سياسية جديدة، حيث أظهر الأمير الجديد توجهًا أكثر حزمًا في معالجة الجمود السياسي، كما أن خطابه الأخير أشار بوضوح إلى ضرورة إعادة ضبط العلاقة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية.
لكن التحدي الأكبر يظل في قدرة البرلمان القادم على إعادة بناء الثقة بين الناخبين والحكومة، خاصة وأن تكرار الانتخابات دون نتائج حقيقية قد يؤدي إلى تآكل شرعية النظام السياسي على المدى البعيد.
الانتخابات الحالية ليست مجرد حدث سياسي روتيني، بل هي اختبار حقيقي لمدى قدرة الكويت على تجاوز أزمة الجمود السياسي والدخول في مرحلة إصلاح حقيقية. فنجاح البرلمان القادم يعتمد على مدى قدرته على التعاون مع الحكومة لدفع عجلة الإصلاح الاقتصادي، وإيجاد حلول للمشكلات العالقة، دون الوقوع في فخ الصراعات السياسية التي أعاقت تقدم البلاد لسنوات.
فهل تكون هذه الانتخابات نقطة انطلاق نحو مرحلة جديدة، أم أنها مجرد محطة أخرى في دائرة الصراع بين البرلمان والحكومة؟ هذا ما ستكشفه الأيام القادمة.
“بعمق” زاوية أسبوعية سياسية تحليلية على “شُبّاك” يكتبها رئيس التحرير: مالك الحافظ