تشكل العلاقات بين الجزائر وفرنسا نموذجاً معقداً للعلاقات الثنائية التي تتداخل فيها أبعاد تاريخية وسياسية واقتصادية. رغم البداية الإيجابية للعام 2023، التي شهدت ديناميكية جديدة في العلاقات بين البلدين، إلا أن الخلافات السياسية والذاكرة التاريخية سرعان ما عادت لتلقي بظلالها على هذا المسار، ما أدى إلى تأجيل زيارة الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إلى فرنسا مرتين، وإلى برود واضح في الاتصالات الدبلوماسية. لكن مع استئناف التواصل الرسمي بين وزارتي الخارجية، يُطرح تساؤل حول مدى قدرة الطرفين على تجاوز التوترات المتكررة وبناء شراكة استراتيجية قائمة على المصالح المشتركة.
تظل قضية الذاكرة أبرز الملفات التي تؤثر على مسار العلاقات بين الجزائر وفرنسا. إنشاء لجنة مشتركة من المؤرخين لمراجعة تاريخ الحقبة الاستعمارية يُعد خطوة إيجابية، لكنه يواجه تحديات كبيرة بسبب الحساسيات التاريخية والاختلافات في وجهات النظر. مرسوم النشيد الوطني الجزائري الذي يتضمن مقاطع تشير إلى “الحساب مع فرنسا” يعكس استمرار هذا التوتر الرمزي. بالنسبة للجزائر، الذاكرة ليست مجرد ملف سياسي، بل جزء من الهوية الوطنية، وهو ما يجعل أي تقارب مشروطاً باعتراف فرنسا الصريح بماضيها الاستعماري.
إلغاء اتفاقية التنقل والهجرة لسنة 1968 شكل صدمة للجزائر، خاصة أن الاتفاقية كانت تمنح امتيازات للمهاجرين الجزائريين. من جانبها، تواجه فرنسا ضغوطاً داخلية بسبب تصاعد الخطاب المعادي للهجرة. هذا الملف يعكس تقاطع القضايا الداخلية والخارجية في سياسات البلدين، حيث يتعين إيجاد صيغة توازن بين حماية الحقوق الجزائرية والاستجابة للمتطلبات السياسية الفرنسية.
الخلافات حول منطقة الساحل تُعد بُعداً آخر للتوتر. الجزائر ترى في نفسها لاعباً محورياً في استقرار المنطقة، مستندة إلى مبادراتها في النيجر ومالي، بينما تُتهم فرنسا بأنها تفقد نفوذها التقليدي في المنطقة لصالح قوى جديدة مثل روسيا. التباين في وجهات النظر حول هذه القضايا يزيد من تعقيد العلاقات الثنائية، خاصة أن كلا البلدين يسعى لتعزيز نفوذه الإقليمي.
استئناف التواصل الرسمي بين وزارتي الخارجية يُعد خطوة ضرورية لإعادة بناء الثقة، لكنه لا يكفي وحده لتجاوز التحديات. القمة العاشرة للمشاورات السياسية بين البلدين التي عُقدت في باريس تركزت على تقييم الملفات العالقة، لكنها كشفت أيضاً عن هشاشة التوافق. الرئيس تبون كان واضحاً في تأكيده على أن زيارته لفرنسا يجب أن تكون ذات طابع عملي وليس مجرد لقاء رمزي. هذا التصريح يعكس إصرار الجزائر على تحقيق نتائج ملموسة تعكس شراكة متكافئة.
على الجانب الفرنسي، يبدو أن هناك إدراكاً بضرورة إصلاح العلاقات مع الجزائر لأسباب استراتيجية واقتصادية. الجزائر تُعد شريكاً مهماً لفرنسا في مكافحة الإرهاب، وأحد الموردين الرئيسيين للغاز الطبيعي لأوروبا. تعزيز التعاون في مجالات مثل الشباب والتعليم والاستثمار قد يشكل أرضية مشتركة لتخفيف التوترات.
إذا تم الاتفاق على جدول زمني محدد لتنفيذ “إعلان الجزائر من أجل شراكة متعددة”، فقد يشهد العام المقبل تقدماً في العلاقات الثنائية. الاستثمار في مشاريع ملموسة قد يساعد في بناء الثقة بين البلدين.
إذا لم يتم التوصل إلى حلول جذرية لقضايا الذاكرة والهجرة، فقد تبقى العلاقات عرضة للتقلبات، مع استمرار الاتهامات المتبادلة التي تعطل التقدم في الملفات الأخرى.
استمرار الخلافات حول منطقة الساحل قد يؤدي إلى مزيد من التباعد بين البلدين، خاصة إذا فشلت فرنسا في احتواء تراجع نفوذها الإقليمي، أو إذا شعرت الجزائر بأن مصالحها لا تُحترم في المنطقة.
العلاقات الجزائرية-الفرنسية تجسد تداخلاً معقداً بين الماضي والحاضر. تجاوز الخلافات يتطلب إرادة سياسية حقيقية من الطرفين، مع التركيز على المصالح المشتركة بدل التركيز على نقاط الخلاف. في ظل التحولات الإقليمية والدولية، يُعد بناء شراكة متوازنة بين الجزائر وفرنسا ضرورة استراتيجية لضمان الاستقرار والتنمية في المنطقة. لكن تحقيق ذلك يعتمد على قدرة الطرفين على تجاوز الرموز التاريخية والعمل على بناء أسس جديدة لعلاقة قائمة على الاحترام المتبادل والتعاون العملي.
“بعمق” زاوية أسبوعية سياسية تحليلية على “شُبّاك” يكتبها رئيس التحرير: مالك الحافظ