Spread the love

لماذا لا يزال الزواج القسري منتشرًا في العالم العربي رغم التقدم في التشريعات والنقاشات حول حقوق المرأة؟ هل يمكن اعتبار العنف الاقتصادي شكلًا من أشكال الاستعباد الحديث الذي يُمارَس ضد النساء داخل الأسرة؟ كيف يتحول الزواج من شراكة قائمة على الاختيار الحر إلى عقد يتم إبرامه وفقًا للمصالح العائلية أو المالية، دون أي اعتبار لرغبة المرأة أو مصلحتها؟

في العديد من المجتمعات العربية، لا تزال النساء يُجبرن على الزواج دون موافقتهن الكاملة، إما بسبب التقاليد، أو للحفاظ على “شرف العائلة”، أو لتحقيق مكاسب مالية. الزواج القسري لا يعني فقط أن تُجبر الفتاة على الزواج بشخص لا تريده، بل يشمل أيضًا الضغوط النفسية والاقتصادية والاجتماعية التي تُمارَس عليها لتقبل زواج لا يحقق لها الاستقلال أو الكرامة.

تقرير صادر عن منظمة العفو الدولية عام 2023 يشير إلى أن واحدة من كل خمس نساء في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا قد تعرضت لشكل من أشكال الزواج القسري، سواء كان ذلك عن طريق الإكراه المباشر، أو من خلال الضغوط العائلية والاقتصادية التي تجعل رفض الزواج أمرًا مستحيلًا. في بعض الدول، لا تزال الفتيات القاصرات يُجبرن على الزواج من رجال يكبرونهن بعقود، مما يحرمهن من فرصة التعليم أو بناء حياة مستقلة.

توضح الباحثة الجزائرية نادية بن يوسف، المتخصصة في دراسات الجندر، أن الزواج القسري ليس مجرد مسألة فردية، بل هو انعكاس لهيمنة البنية الذكورية داخل الأسرة. عندما تُجبر الفتاة على الزواج، فإن ذلك لا يحدث بمعزل عن منظومة مجتمعية ترى المرأة كأداة لتعزيز الروابط العائلية أو لتحقيق مكاسب مادية، وليس كفرد له الحق في تقرير مصيره.

العنف الاقتصادي: حين تصبح المرأة رهينة الوضع المالي

إلى جانب الزواج القسري، تواجه النساء في العالم العربي شكلاً آخر من أشكال العنف غير المرئي، وهو العنف الاقتصادي. يُمارَس هذا العنف من خلال حرمان النساء من حق العمل، أو السيطرة على رواتبهن، أو إجبارهن على توقيع تنازلات مالية لصالح الزوج أو الأسرة، مما يجعلهن في حالة تبعية دائمة.

في كثير من الحالات، تُمنع النساء من اتخاذ قرارات اقتصادية تخص حياتهن، حيث يتم إجبارهن على تحويل رواتبهن إلى أزواجهن، أو يتم استغلالهن من قبل أسرهن عبر تزويجهن لرجل ثري مقابل المال، دون أي اعتبار لحقوقهن أو لرغبتهن في بناء حياة مستقلة.

في المغرب، تشير تقارير محلية إلى أن العديد من النساء اللواتي يعانين من العنف الزوجي غير قادرات على الهروب من أزواجهن بسبب اعتمادهن الاقتصادي الكامل عليهم. في العراق، لا تزال بعض القبائل تمارس تقليد “الفصلية”، حيث يتم تزويج الفتيات القاصرات لعائلات أخرى كجزء من تسوية نزاعات عشائرية، دون أن يكون لهن أي رأي في مصيرهن.

تؤكد الخبيرة القانونية المصرية رزان صلاح الدين، التي تعمل على قضايا النساء في المحاكم الأسرية، أن العنف الاقتصادي هو أحد أكثر أشكال العنف انتشارًا، لكنه في الوقت نفسه الأقل وضوحًا. عندما تُمنع المرأة من التحكم في مالها، أو تُجبر على الزواج من شخص لم تختره بسبب الفقر، فإن ذلك يعني أنها تعيش في سجن غير مرئي، حيث يتم التحكم في مصيرها بالكامل.

الطلاق كمعركة اقتصادية: من يملك الحق في الاستقلال؟

حتى عندما تحاول المرأة الخروج من زواج غير سعيد، تواجه عقبات مالية هائلة تجعل الطلاق شبه مستحيل. في بعض الدول، لا تستطيع المرأة طلب الطلاق دون التنازل عن حقوقها المالية، مما يجعلها في موقف ضعف دائم. في حالات أخرى، يتم استخدام الأطفال كوسيلة للضغط على المرأة، حيث تُحرَم من حضانتهم إذا لم توافق على شروط الزوج أو الأسرة.

في الأردن، على سبيل المثال، تُجبر بعض النساء على التنازل عن ممتلكاتهن كشرط للطلاق، مما يجعلهن بلا أي مصدر دخل بعد الانفصال. في لبنان، حيث تعاني النساء من قوانين طلاق غير متساوية بين الطوائف المختلفة، يُصبح الطلاق معركة طويلة الأمد، حيث تضطر بعض النساء للبقاء في زواج مسيء لأنهن غير قادرات على تحمل الأعباء المالية للانفصال.

تقول الناشطة الحقوقية التونسية هالة الشابي، التي تعمل مع النساء المعنفات، إن النساء في المجتمعات العربية لا يواجهن فقط صعوبة في الطلاق، بل يُعاملن وكأنهن “مذنبات” لأنهن قررن إنهاء زواج لم يكن عادلاً منذ البداية. الطلاق ليس مجرد إجراء قانوني، بل هو معركة اقتصادية ونفسية تجعل الكثير من النساء يُفضلن البقاء في علاقات سامة خوفًا من العواقب.

رغم أن بعض الدول العربية أدخلت إصلاحات قانونية للحد من الزواج القسري، إلا أن القوانين لا تزال غير كافية لحماية النساء من الضغوط الاقتصادية التي تُمارَس عليهن. في السعودية، ورغم إلغاء بعض القيود المفروضة على النساء، لا تزال بعض النساء يُواجهن عراقيل قانونية تمنعهن من التصرف في أموالهن بحرية. في السودان، لا يزال الزواج القسري شائعًا، خاصة في المناطق الريفية التي تفتقر إلى الرقابة القانونية. في مصر، ورغم وجود قوانين تحمي حق المرأة في العمل، إلا أن العادات الاجتماعية لا تزال تجعل من الصعب على الكثيرات الاستقلال المالي.

ترى المحامية الفلسطينية دينا زكريا أن القانون وحده لا يكفي لتغيير الواقع، لأن العنف الاقتصادي والزواج القسري مرتبطان بعقلية مجتمعية تضعف المرأة بشكل ممنهج. إذا لم يكن هناك وعي مجتمعي واسع بحقوق النساء، فإن أي قانون سيظلّ مجرد حبر على ورق، لأن القواعد الاجتماعية ستظلّ أقوى من القوانين الرسمية.

هل يمكن كسر هذه الحلقة؟

مواجهة الزواج القسري والعنف الاقتصادي يتطلب تغييرًا جذريًا في كيفية تعامل المجتمعات العربية مع النساء كأفراد مستقلين، وليس كأدوات لتسوية النزاعات أو تحقيق المكاسب الاقتصادية. الحل لا يكمن فقط في تعديل القوانين، بل في تغيير الثقافة التي تُعزز فكرة أن المرأة لا تملك قرارها، سواء في الزواج أو في الاقتصاد.

تمكين النساء ماليًا وتعليميًا هو أحد المفاتيح الأساسية لكسر هذه الحلقة. عندما يكون للمرأة دخل مستقل، وتعليم كافٍ، فإنها ستكون أقل عرضة للزواج القسري أو للاستغلال المالي. لكن هذا التغيير لن يحدث بين ليلة وضحاها، لأن العقليات المتجذرة لا تتغير بسهولة، وتحتاج إلى سنوات من التوعية والنضال القانوني والاجتماعي.

السؤال الذي يبقى معلقًا: هل يمكن للمجتمعات العربية أن تتخلى عن فكرة المرأة كأداة للمقايضة الاقتصادية، أم أن هذه الممارسات ستظلّ مستمرة تحت غطاء العادات والتقاليد؟

error: Content is protected !!