في الوقت الذي تتزايد فيه التحذيرات من أزمة المناخ والتدهور البيئي، لا تزال بعض الصناعات الكبرى تواصل أنشطتها دون قيود حقيقية، متسببة في كوارث بيئية تدفع البشرية ثمنها على المدى الطويل. من قطاع النفط والغاز، إلى صناعة الموضة السريعة، مروراً بالزراعة الصناعية والنفايات الإلكترونية، يبرز سؤال محوري: من يمول هذه الصناعات؟ ولماذا لا تزال الحكومات عاجزة عن وضع حد لتأثيرها المدمر على البيئة؟
النفط والغاز: اقتصاد عالمي يقوم على التلوث
رغم التعهدات العالمية بخفض الانبعاثات الكربونية، لا يزال قطاع النفط والغاز يمثل أكبر مصدر للتلوث البيئي. وفقاً لتقرير صادر عن “وكالة الطاقة الدولية” عام 2023، فإن شركات النفط الكبرى، مثل “إكسون موبيل” و”شِل” و”أرامكو”، مسؤولة عن ما يقارب 35% من إجمالي انبعاثات ثاني أكسيد الكربون على مستوى العالم. هذه الشركات تواصل توسيع عملياتها، رغم تعهدات بعض الحكومات بالتحول إلى الطاقة النظيفة، حيث أن الاستثمارات في الوقود الأحفوري لا تزال تتجاوز بكثير الاستثمارات في الطاقة المتجددة.
تعد الدول الخليجية من بين أكبر الممولين لقطاع النفط، حيث تستثمر السعودية والإمارات وقطر مليارات الدولارات في مشروعات التوسع في إنتاج النفط والغاز، رغم التزامها العلني باتفاقيات المناخ. في المقابل، تحاول بعض الدول الغربية فرض ضرائب بيئية على الشركات النفطية، لكن هذه الضرائب لا تزال محدودة التأثير، حيث يتم تمرير التكلفة إلى المستهلكين بدلاً من أن تتحملها الشركات نفسها.
الدكتور مخلص فاخر، الخبير في سياسات الطاقة بجامعة مؤتة، يرى أن “الصناعة النفطية ليست مجرد قطاع اقتصادي، بل هي منظومة عالمية معقدة تتداخل فيها المصالح السياسية والاقتصادية، ما يجعل أي تحول نحو الطاقة النظيفة أكثر صعوبة مما يتم الترويج له”. ويؤكد أن “الدول الكبرى، رغم حديثها عن الاستدامة، لا تزال تعتمد بشكل رئيسي على الوقود الأحفوري، وهو ما يجعل من الصعب وقف تمويل هذه الصناعة في المستقبل القريب”.
إلى جانب النفط والغاز، تعد صناعة الأزياء من أكثر القطاعات تلويثاً للبيئة، حيث تسهم في تلوث المياه، وانبعاثات الكربون، وتدمير الغابات. وفقاً لتقرير “برنامج الأمم المتحدة للبيئة”، فإن صناعة الموضة مسؤولة عن 10% من الانبعاثات العالمية، كما أن عملية تصنيع الأقمشة والصباغة تستهلك كميات هائلة من المياه، وتؤدي إلى تلويث الأنهار بالمواد الكيميائية السامة.
العلامات التجارية الكبرى مثل “زارا”، و”H&M”، و”شي إن”، تواصل إنتاج كميات ضخمة من الملابس، معتمدة على نموذج إنتاج يقوم على استهلاك سريع للموارد، وإغراق الأسواق بمنتجات رخيصة لا تدوم طويلاً، ما يؤدي إلى زيادة النفايات. في بنغلاديش والهند، حيث تتمركز مصانع الموضة السريعة، يتعرض العمال لاستغلال قاسٍ، حيث يعملون في ظروف غير إنسانية مقابل أجور زهيدة، بينما يتم تصريف المخلفات الصناعية في الأنهار والبحيرات القريبة، ما يتسبب في كوارث بيئية للسكان المحليين.
تقول الدكتورة ليلى حسان، الباحثة في الاستدامة الصناعية بجامعة تلمسان، إن “صناعة الموضة السريعة ليست مجرد مشكلة بيئية، بل هي أيضاً قضية عدالة اجتماعية. الشركات الكبرى تحقق أرباحاً بمليارات الدولارات، بينما يعاني العمال والمجتمعات الفقيرة من عواقب التلوث”. وتضيف أن “الحل لا يكمن فقط في فرض قوانين بيئية أكثر صرامة، بل في تغيير نمط الاستهلاك العالمي، بحيث يتم التركيز على الجودة والاستدامة بدلاً من الإنتاج السريع والتخلص السريع”.
الزراعة الصناعية: كيف تحول الغذاء إلى خطر بيئي؟
رغم أن الزراعة تعتبر ضرورة أساسية للحياة، فإن أنماط الزراعة الحديثة القائمة على الإنتاج الضخم تستخدم أساليب تضر بالبيئة بشكل خطير. وفقاً لتقرير صادر عن “منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة” (الفاو)، فإن القطاع الزراعي مسؤول عن 24% من الانبعاثات العالمية، بسبب الاستخدام المكثف للأسمدة الكيميائية، وإزالة الغابات لتحويلها إلى أراضٍ زراعية، والاستهلاك الهائل للمياه.
في البرازيل، يتم تدمير مساحات شاسعة من غابات الأمازون كل عام لصالح زراعة فول الصويا، الذي يستخدم في إنتاج الأعلاف الحيوانية. في أمريكا الشمالية وأوروبا، تؤدي مزارع تربية الأبقار المكثفة إلى انبعاث كميات ضخمة من غاز الميثان، أحد أقوى الغازات الدفيئة. أما في العالم العربي، فإن استخدام المياه الجوفية بشكل غير مستدام لري المحاصيل الزراعية يهدد بتفاقم أزمة ندرة المياه، خاصة في دول مثل السعودية ومصر والأردن.
يؤكد الدكتور نادر العوضي، أستاذ الاقتصاد الزراعي بجامعة الخرطوم، أن “الزراعة الصناعية القائمة على الإنتاج المكثف أصبحت خطراً بيئياً حقيقياً، حيث يتم استنزاف الموارد الطبيعية بسرعة غير مسبوقة، ما يجعل من الصعب على الأجيال القادمة الاعتماد على نفس الأنظمة الزراعية”. ويضيف أن “التوجه نحو الزراعة العضوية وتقنيات الري الحديثة يمكن أن يساعد في تقليل الأثر البيئي، لكنه يتطلب تغييراً جذرياً في السياسات الزراعية”.
النفايات الإلكترونية: الجانب المظلم للثورة الرقمية
مع تزايد الاعتماد على الأجهزة الإلكترونية، باتت النفايات الإلكترونية تشكل تحدياً بيئياً متزايداً، حيث يتم التخلص من ملايين الأطنان من الهواتف الذكية، وأجهزة الكمبيوتر، والبطاريات سنوياً، دون خطط واضحة لإعادة تدويرها. وفقاً لتقرير صادر عن “الاتحاد الدولي للاتصالات”، فإن العالم ينتج أكثر من 50 مليون طن من النفايات الإلكترونية سنوياً، يتم إعادة تدوير أقل من 20% منها، بينما يتم إلقاء الباقي في مكبات النفايات أو تصديره إلى دول فقيرة حيث يتم تفكيكه بطرق غير آمنة.
في إفريقيا، تحولت بعض الدول مثل غانا ونيجيريا إلى مكبات ضخمة للنفايات الإلكترونية القادمة من أوروبا وأمريكا، حيث يعمل آلاف الأشخاص في ظروف غير صحية لتفكيك الأجهزة واستخراج المعادن الثمينة منها. هذه العمليات تؤدي إلى تلوث المياه والتربة، وإصابة العمال بأمراض تنفسية بسبب استنشاق المواد السامة.
يقول الدكتور وسيم سباعي، الباحث في إدارة النفايات بجامعة عين شمس، إن “صناعة التكنولوجيا تتحمل مسؤولية كبرى في مشكلة النفايات الإلكترونية، حيث تواصل الشركات إطلاق منتجات جديدة بوتيرة سريعة دون توفير حلول مستدامة لإعادة التدوير”. ويرى أن “الحل يكمن في فرض تشريعات تلزم الشركات بتطوير أنظمة لإعادة استخدام المكونات الإلكترونية بدلاً من التخلص منها”.
رغم المخاطر البيئية الهائلة التي تسببها هذه الصناعات، لا تزال العديد من البنوك والمؤسسات المالية العالمية تموّل مشاريعها دون قيود حقيقية. في عام 2022 وحده، قدمت البنوك الكبرى تمويلات بأكثر من 1.5 تريليون دولار لشركات الوقود الأحفوري، وفقاً لتقرير صادر عن منظمة “Rainforest Action Network”.
السؤال المطروح اليوم هو: هل يمكن فرض قيود صارمة على تمويل الصناعات الملوثة، أم أن المصالح الاقتصادية ستظل أقوى من أي التزامات بيئية؟ حتى الآن، لا يزال الطريق طويلاً أمام الحكومات والمؤسسات الدولية لفرض إصلاحات حقيقية، ويبقى مصير البيئة معلقاً بين حاجة العالم للنمو الاقتصادي، ومتطلبات الحفاظ على كوكب قابل للحياة.