لماذا لا تزال النساء العربيات يواجهن معارك متكررة من أجل حقوق أساسية تحققت منذ عقود في بقاع أخرى من العالم؟ لماذا تبدو كل خطوة نحو العدالة والمساواة وكأنها انتصار مُكلف في مجتمعات تكرس هياكلها الأبوية؟ هل يمكن للحركة النسوية في العالم العربي أن تصنع تحولًا حقيقيًا، أم أنها مجرد صوت صاخب في الفراغ؟
رغم التقدم الذي حققته الحركات النسوية عالميًا، لا تزال المرأة العربية تواجه عقبات هائلة تعيق وصولها إلى المساواة. وفقًا لتقرير المنتدى الاقتصادي العالمي لعام 2023 حول الفجوة الجندرية، لا تزال منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تحتل مرتبة متأخرة عالميًا من حيث تمثيل النساء في سوق العمل والمشاركة السياسية. التقرير ذاته يشير إلى أن دول الخليج حققت تقدمًا نسبيًا على مستوى تمكين النساء اقتصاديًا، لكن القوانين الاجتماعية الصارمة والتفسيرات الدينية المقيدة لا تزال تفرض تحديات كبرى.
تُشير دراسة صادرة عن مركز الدراسات القانونية والاجتماعية في بيروت إلى أن بعض الدول العربية أدخلت تعديلات على قوانين الأحوال الشخصية وقوانين العمل لمواءمة التشريعات مع المعايير الدولية، إلا أن المشكلة تكمن في التنفيذ. ففي حين أن تونس والمغرب أصدرتا قوانين تعزز حقوق النساء، لا تزال دول أخرى تفرض قيودًا على الطلاق، الحضانة، والميراث، مما يجعل أي حديث عن المساواة القانونية ضربًا من التزييف.
توضح المحامية اللبنانية منى العلي، المختصة في قضايا حقوق الإنسان، أن “القوانين وحدها لا تكفي، فغياب الإرادة السياسية وضعف آليات التطبيق يجعل من هذه الإصلاحات مجرد نصوص غير فعالة. التغيير الحقيقي يحتاج إلى ثورة على المستوى الاجتماعي والثقافي قبل أن يكون قانونيًا”.
بين النسوية الغربية والعربية: أين يكمن الفرق؟
عند مقارنة الحراك النسوي العربي بنظيره العالمي، نجد اختلافًا واضحًا في الأولويات والأدوات. بينما تركز النسوية الغربية اليوم على قضايا مثل حقوق مجتمع الميم وتحدي النظام الرأسمالي الأبوي، لا تزال النسوية العربية تخوض معركة البديهيات: الحق في التعليم، منع زواج القاصرات، حماية النساء من العنف الأسري، والمساواة في الأجور.
تقول الباحثة المصرية ليلى إبراهيم، المختصة في الدراسات النسوية، إن “النسوية العربية تواجه معضلة مزدوجة: من جهة، يتم تصويرها على أنها حركة مستوردة غريبة عن المجتمع، ومن جهة أخرى، تواجه مقاومة شرسة من التيارات الدينية المحافظة التي ترى فيها تهديدًا مباشرًا للبنية الأسرية التقليدية”.
ورغم القمع المستمر، تمكنت بعض الحركات النسوية العربية من تحقيق تقدم ملموس. في السعودية، تم السماح للنساء بقيادة السيارات عام 2018 بعد عقود من الحظر. في تونس، جرى تعديل قانون الأحوال الشخصية ليمنح النساء حقًا متساويًا في الزواج والطلاق. لكن هذه النجاحات غالبًا ما تظل استثناءات وليست قاعدة.
تشير إحصائية صادرة عن البنك الدولي عام 2022 إلى أن نسبة النساء العاملات في الشرق الأوسط لا تتجاوز 20%، مقارنة بـ 51% عالميًا. هذه الفجوة الشاسعة تعكس استمرار التحديات الهيكلية أمام المرأة العربية، بدءًا من القوانين المقيدة وصولًا إلى العادات والتقاليد التي تفرض دورًا نمطيًا عليها داخل الأسرة.
مع صعود وسائل التواصل الاجتماعي، باتت النساء العربيات أكثر قدرة على التعبير عن آرائهن، لكنهن في الوقت نفسه أكثر عرضة للعنف الإلكتروني. تشير دراسة صادرة عن منظمة الأمم المتحدة للمرأة عام 2021 إلى أن 65% من النساء الناشطات على الإنترنت في الدول العربية تعرضن لشكل من أشكال العنف السيبراني، سواء كان ذلك تحرشًا رقميًا أو تهديدًا مباشرًا.
تقول الناشطة النسوية الأردنية رُبى القاسم إن “السوشيال ميديا منحتنا صوتًا، لكنها في الوقت نفسه جعلتنا أكثر عرضة للهجمات. أي امرأة تجرؤ على الحديث عن قضايا النساء تواجه سيلًا من الاتهامات الأخلاقية ومحاولات التشويه، مما يعكس مدى مقاومة المجتمع لأي تغيير حقيقي”.
ما الذي يجب فعله؟ حلول أم مجرد شعارات؟
لا يمكن لأي حراك نسوي أن ينجح بدون تغييرات هيكلية حقيقية. الأمر لا يقتصر على سنّ تشريعات أكثر عدلًا، بل يتطلب تغييرًا جذريًا في العقل الجمعي للمجتمعات العربية. إصلاح القوانين يظلّ الركيزة الأولى لأي تقدم حقيقي، لكن الأمر لا يقتصر على تعديل النصوص القانونية، بل يجب ضمان تطبيقها بصرامة ومنح النساء آليات قانونية فعلية للدفاع عن حقوقهن، حتى لا تبقى الإصلاحات مجرد حبر على ورق.
على المستوى الاقتصادي، لا يمكن الحديث عن تمكين حقيقي للمرأة في ظل استمرار الفجوة الاقتصادية وغياب السياسات الداعمة لمشاركة النساء في سوق العمل. دعم ريادة الأعمال النسائية، وتوفير بيئة عمل تحترم حق النساء في المساواة دون تمييز، يمثلان عنصرين أساسيين في أي عملية تغيير مستدامة. التعليم هو الآخر يشكّل حجر الأساس في هذه العملية. لا يمكن لأي مجتمع أن يحقق قفزات حقيقية نحو العدالة الجندرية دون أن يضمن وصول الفتيات إلى التعليم دون قيود، مع دمج مفاهيم المساواة الجندرية في المناهج الدراسية، بما يضمن تفكيك الصور النمطية التي تُزرع في وعي الأجيال منذ الصغر.
الإعلام بدوره يتحمل مسؤولية كبرى في تعزيز أو عرقلة هذه التغييرات. طالما استمر في تقديم النساء في الأدوار النمطية، فإن التأثيرات السلبية ستظل قائمة، مما يجعل من الضروري إعادة تشكيل الصورة الإعلامية، والترويج لنماذج ناجحة من النساء الرائدات في مختلف المجالات، ليكون التغيير أكثر عمقًا وتأثيرًا.
في ظل التغيرات العالمية المتسارعة، باتت النسوية العربية أمام مفترق طرق. إما أن تتكيف مع تحدياتها وتطور خطابًا محليًا قادرًا على اختراق المجتمع بذكاء، أو أن تظل حبيسة دوائر مغلقة تتكرر فيها ذات المعارك بلا نتائج حقيقية.
يقول المفكر المغربي سعيد بن جلون، المختص في التحولات الاجتماعية، إن “المشكلة ليست في النسوية كحركة، بل في العقلية الاجتماعية التي لا تزال تنظر إلى المرأة ككيان تابع، وليس كفرد مستقل بذاته”.
السؤال الذي يفرض نفسه اليوم: هل يمكن للحراك النسوي العربي أن يكون القوة الدافعة لتغيير جذري، أم أن القيود المجتمعية ستظل أقوى من أي محاولة للخروج عن المألوف؟