يمثل الاتفاق الدفاعي الذي وقعته بريطانيا وألمانيا خطوة جديدة في إعادة هيكلة التحالفات العسكرية الأوروبية في ظل التحديات الجيوسياسية المتصاعدة، لا سيما في أعقاب الحرب الروسية الأوكرانية. هذا الاتفاق، الذي وصفته لندن بأنه “تاريخي”، يتجاوز مجرد تعزيز التعاون العسكري التقليدي ليؤسس لعلاقة دفاعية أكثر عمقاً، تمتد إلى مجالات التدريب، والاستخبارات، والتصنيع العسكري.
منذ خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، بدت العلاقات مع ألمانيا متوترة، على الرغم من استمرار التعاون داخل حلف شمال الأطلسي. لكن توقيع هذه الاتفاقية يعكس تحولاً استراتيجياً يعيد ترتيب الأوراق الأمنية في أوروبا، خاصة في وقت تصاعدت فيه المخاوف من توسع النفوذ العسكري الروسي وتزايد التهديدات الهجينة. إن السماح للطائرات الألمانية بالعمل من قاعدة في اسكتلندا يمثل اختراقاً نوعياً في العلاقات الدفاعية بين البلدين، إذ إنه يوسع نطاق عمليات برلين العسكرية في شمال الأطلسي، المنطقة التي لطالما كانت تحت النفوذ الأمريكي والبريطاني.
كما أن التركيز على تطوير أسلحة هجومية بعيدة المدى يمثل خطوة حاسمة في تعزيز القدرات الدفاعية الأوروبية. فبينما تركزت المساعدات العسكرية المقدمة لأوكرانيا حتى الآن على الأسلحة الدفاعية والتكتيكية، فإن تطوير قدرات هجومية جديدة يعني أن الحلفاء الغربيين باتوا أكثر ميلاً لتوسيع نطاق الردع العسكري. هذا الأمر لا يقتصر فقط على مواجهة روسيا، بل يعكس توجهاً أوروبياً لتعزيز استقلالية القرار الدفاعي بعيداً عن الولايات المتحدة، التي أظهرت في بعض المحطات فتوراً في التزاماتها تجاه الحلفاء الأوروبيين.
الجانب الاقتصادي في الاتفاقية لا يقل أهمية عن الشق العسكري، إذ إن إنشاء مصنع لإنتاج مدافع من الفولاذ البريطاني يشير إلى رغبة البلدين في تعزيز التصنيع الحربي داخل أوروبا، في ظل تصاعد الطلب على المعدات العسكرية نتيجة الحرب الأوكرانية. فبعدما أُنهكت المخزونات العسكرية الأوروبية بسبب الإمدادات المتواصلة لكييف، بدأت دول القارة في إعادة النظر في سياسات التصنيع الدفاعي، وتهدف هذه الاتفاقية إلى تأمين سلسلة إمداد أكثر استدامة للقوات المسلحة في بريطانيا وألمانيا.
ومع ذلك، يبقى التساؤل الأهم: هل هذا الاتفاق يعكس تحالفاً دفاعياً مستقلاً، أم أنه مجرد تعزيز مؤقت للتعاون في إطار الناتو؟ فبينما تبدو التصريحات الرسمية مشددة على ضرورة مواجهة “العدوان الروسي”، فإن الاتفاقية تشير أيضاً إلى إدراك أوروبي متزايد بضرورة تعزيز القدرات العسكرية بعيداً عن واشنطن. وإذا استمر هذا التوجه، فقد نشهد مستقبلاً محاولات أوروبية أكثر جدية لإنشاء منظومة دفاعية متكاملة، تقلل الاعتماد على المظلة الأمريكية.
في ظل هذه التحولات، تبدو الرسالة واضحة: أوروبا لم تعد تعتبر الأمن الإقليمي أمراً مفروغاً منه، بل باتت تدرك أن مستقبلها الأمني يتطلب شراكات أعمق وتحالفات أكثر مرونة. ويبقى السؤال الأبرز: هل ستكون هذه الاتفاقية مجرد بداية لسلسلة من التحالفات الدفاعية الأوروبية الجديدة، أم أنها مجرد رد فعل على التهديدات الراهنة دون استراتيجية طويلة المدى؟
تأتي هذه الاتفاقية في وقت حساس للغاية، حيث تعيش أوروبا مرحلة غير مسبوقة من إعادة تقييم استراتيجياتها الدفاعية والأمنية، خاصة بعد ما أثبتت الحرب في أوكرانيا هشاشة بعض الافتراضات حول قدرة الردع التقليدي لحلف شمال الأطلسي. التحالف البريطاني-الألماني يمكن قراءته في سياق أوسع، يتعلق بمحاولة لندن وبرلين التكيف مع واقع جديد يتسم بزيادة الضغوط العسكرية، وتراجع الاعتماد الحصري على الولايات المتحدة، وارتفاع أهمية بناء تحالفات إقليمية أكثر استدامة.
في هذا السياق، يبدو أن الاتفاقية لا تستهدف فقط تعزيز الأمن الأوروبي، بل تحمل أيضاً بعداً جيوسياسياً أوسع، قد يرتبط بتوازنات القوى بين بريطانيا وألمانيا من جهة، وفرنسا من جهة أخرى. باريس، التي كانت حتى وقت قريب الدولة الأوروبية الأكثر انخراطاً في مشاريع الدفاع المشترك، قد تنظر بقلق إلى هذا التقارب الدفاعي البريطاني-الألماني، خاصة في ظل طموحاتها لتعزيز مفهوم “السيادة الدفاعية الأوروبية” ضمن الاتحاد الأوروبي. هذا يطرح تساؤلاً حول ما إذا كانت لندن وبرلين تسعيان إلى صياغة نهج موازٍ، قائم على تحالفات مرنة داخل الناتو، ولكن خارج الإطار الصارم للاتحاد الأوروبي.
على المستوى العسكري التقني، فإن التعاون في تطوير أسلحة هجومية بعيدة المدى قد يكون أحد المؤشرات الأكثر دلالة على تحول في العقيدة العسكرية الأوروبية. منذ الحرب الباردة، كانت أوروبا تركّز على الدفاع أكثر من الهجوم، لكن تعزيز القدرات الهجومية يشير إلى أن بريطانيا وألمانيا باتتا تفكران في استراتيجيات ردع أكثر فاعلية، ربما استعداداً لسيناريوهات تتطلب قدرة على الضرب الاستباقي، أو على الأقل تحييد التهديدات قبل أن تصل إلى الأراضي الأوروبية.
كذلك، من المهم الإشارة إلى أن هذه الاتفاقية قد تحمل أبعاداً اقتصادية وسياسية أعمق، حيث إن التصنيع العسكري كان تقليدياً مجالاً محتكراً من قبل دول كبرى مثل الولايات المتحدة وفرنسا. إذا نجحت بريطانيا وألمانيا في تعزيز قدراتها التصنيعية المستقلة، فقد يؤدي ذلك إلى تغيير في ديناميكيات السوق الدفاعي الأوروبي، وخلق منافسة أكثر حدة بين اللاعبين التقليديين والجدد.
كما أن الجانب اللوجيستي في الاتفاقية يطرح تساؤلات حول دور القواعد العسكرية البريطانية في المستقبل، إذ أن منح الألمان الحق في استخدام قاعدة اسكتلندية قد يكون بداية لاتفاقيات أوسع تشمل تبادل المنشآت والبنى التحتية بين الدول الأوروبية، وهو ما قد يسهل عمليات الانتشار السريع، ويعزز قدرة أوروبا على التعامل مع الأزمات الطارئة، سواء في القارة نفسها أو في مناطق أخرى مثل شمال إفريقيا أو الشرق الأوسط.
على الصعيد السياسي الداخلي، يمثل الاتفاق أيضاً نقطة تحول في الموقف الألماني من القضايا الدفاعية، حيث إن برلين لطالما تبنت نهجاً أكثر حذراً في المسائل العسكرية، بسبب إرثها التاريخي بعد الحرب العالمية الثانية. لكن التوجه الحالي، الذي تعكسه تصريحات وزير الدفاع الألماني، يشير إلى أن ألمانيا باتت أكثر استعداداً للعب دور قيادي في الأمن الأوروبي، بعيداً عن موقعها التقليدي كقوة اقتصادية بحتة.
يبقى التساؤل الأبرز حول مدى استدامة هذا التحالف، وما إذا كان سيؤدي إلى تحالفات دفاعية أوسع تشمل دولاً أخرى، أم أنه سيبقى محصوراً في إطار التعاون الثنائي بين بريطانيا وألمانيا. في ظل عالم يتغير بسرعة، قد يكون هذا الاتفاق بمثابة نواة لمزيد من المبادرات التي تهدف إلى تعزيز الأمن الأوروبي بطريقة أكثر استقلالية، لكنها في الوقت نفسه تبقى ضمن المظلة العامة لحلف الناتو.
“بعمق” زاوية أسبوعية سياسية تحليلية على “شُبّاك” يكتبها رئيس التحرير: مالك الحافظ