Spread the love

في العقود الأخيرة، تحولت صناعة الأزياء المحافظة أو ما يُعرف بـ”الموضة المحتشمة” إلى سوق عالمي يدر مليارات الدولارات، حيث أصبحت العلامات التجارية العالمية تتنافس على تقديم تصميمات تتناسب مع متطلبات النساء اللواتي يفضلن اللباس المحتشم. لكن هذه الظاهرة تطرح تساؤلات معقدة: هل هذه الصناعة تمثل حرية الاختيار للنساء، أم أنها مجرد إعادة إنتاج لمعايير اللباس التي يفرضها المجتمع الأبوي؟ وهل توفر الشركات تنوعًا حقيقيًا في خيارات الأزياء، أم أنها تستغل المرأة اقتصاديًا تحت غطاء “الاحتشام”؟

لطالما ارتبط اللباس المحتشم بالعادات والتقاليد الدينية في المجتمعات العربية والإسلامية، لكنه في السنوات الأخيرة تحول من كونه مجرد التزام ديني أو ثقافي إلى نمط تجاري عالمي. أطلقت شركات كبرى مثل Nike، Dolce & Gabbana، وH&M خطوط إنتاج خاصة بـ”الأزياء المحافظة”، والتي تشمل العباءات العصرية، الحجاب الرياضي، وفساتين بأكمام طويلة تلائم النساء اللواتي يبحثن عن خيارات تجمع بين الأناقة والالتزام المجتمعي.

توضح الباحثة المغربية سعاد العمري، المتخصصة في الدراسات النسوية، أن “ما نشهده اليوم ليس مجرد تطور طبيعي في عالم الموضة، بل هو انعكاس لتحولات اقتصادية واجتماعية أعمق. دخول الشركات الكبرى إلى سوق الأزياء المحافظة لم يكن بدافع دعم حرية النساء في اختيار ملابسهن، بل لأن هذا القطاع أصبح مربحًا للغاية، حيث يُتوقع أن تتجاوز قيمته 400 مليار دولار عالميًا بحلول عام 2030.”

وتضيف أن “المفارقة تكمن في أن الشركات التي تروّج للملابس المحتشمة، هي نفسها التي تروّج لمعايير الجمال التي تتطلب جسدًا نحيفًا ومواصفات محددة، مما يطرح سؤالًا حول مدى صدق هذا التوجه، وهل هو تمكين حقيقي للمرأة أم مجرد استغلال اقتصادي جديد؟”

الاحتشام والهوية: هل تتحكم النساء فعلًا في اختيار ملابسهن؟

في ظل الجدل حول “حرية اللباس”، يرى البعض أن انتشار الأزياء المحافظة يعكس خيارات شخصية للنساء، في حين يرى آخرون أنه امتداد لهيمنة الذوق الذكوري الذي يحدد للمرأة كيف يجب أن تبدو.

يؤكد الباحث المصري خالد الجندي، المختص في علم الاجتماع الثقافي، أن “الموضة ليست مجرد تعبير عن الذوق الفردي، بل هي جزء من بنية اجتماعية تحدد ما هو مقبول وما هو مرفوض. المشكلة ليست في اختيار النساء للأزياء المحتشمة، بل في كون هذا الخيار يأتي أحيانًا نتيجة لضغوط مجتمعية ودينية، حيث يتم فرض معايير اللباس تحت مسميات الفضيلة والأخلاق.”

ويضيف أن “الموضة المحافظة لا تختلف كثيرًا عن الموضة السائدة في كونها تخضع لنفس معايير الربح والاستهلاك، فالمرأة لا تزال مطالبة بالظهور بشكل معين حتى وهي ترتدي الملابس المحتشمة، وهذا يؤكد أن التحكم في جسد المرأة لم ينتهِ، بل فقط تغيرت أدواته.”

مع نمو الطلب على الأزياء المحافظة، بدأت بعض النساء في دخول هذا المجال كمصممات ورائدات أعمال، حيث ازداد عدد العلامات التجارية النسائية التي تركز على تقديم أزياء تتناسب مع رغبات النساء في العالم العربي وخارجه.

تقول سعاد العمري إن “هذا القطاع، رغم إشكالياته، إلا أنه فتح فرصًا اقتصادية أمام النساء اللواتي يعملن في مجال تصميم الأزياء، وهو ما يمنحهن مساحة للتحرر الاقتصادي، حتى لو كان ضمن الإطار التقليدي.”

لكن في المقابل، تظل المشكلة الأساسية قائمة: من الذي يتحكم في معايير الأزياء؟ وهل المرأة تشتري هذه الملابس لأنها تريدها فعلًا، أم لأنها لا تجد خيارات أخرى في مجتمع يفرض عليها ضوابط صارمة بشأن جسدها؟

الأزياء المحافظة بين الشرق والغرب: ازدواجية المعايير؟

من المثير للاهتمام أن الأزياء المحافظة لم تعد محصورة في الدول الإسلامية، بل أصبحت جزءًا من الموضة العالمية، حيث ترتدي بعض النساء في أوروبا والولايات المتحدة ملابس فضفاضة كرمز للتحرر من “إملاءات الجسد المثالي” التي تفرضها صناعة الأزياء التقليدية.

يرى خالد الجندي أن “ما نشهده اليوم هو ازدواجية في المعايير، ففي حين يُنظر إلى الملابس المحتشمة في الدول الغربية كخيار شخصي يعكس الحرية الفردية، يتم فرضها في بعض الدول العربية كمطلب اجتماعي، مما يكشف عن إشكالية حقيقية تتعلق بمن يملك سلطة التحكم في جسد المرأة.”

في النهاية، تظل الأزياء المحتشمة موضوعًا معقدًا يتجاوز فكرة الموضة ليصل إلى عمق التناقضات الثقافية والاقتصادية التي تعيشها المرأة. هل تستطيع النساء فعلًا اختيار ما يرتدينه بحرية، أم أنهن محاصرات بمعايير مفروضة عليهن من قبل المجتمع والسوق على حد سواء؟

يبقى السؤال الأهم: هل تمثل الأزياء المحافظة تمكينًا حقيقيًا للمرأة، أم أنها شكل جديد من أشكال الضبط الاجتماعي الذي يعيد إنتاج الأدوار التقليدية للنساء بطريقة أكثر تسويقًا؟

error: Content is protected !!