لماذا لا تزال قوانين الأحوال الشخصية في العالم العربي تقف عائقًا أمام تحقيق العدالة للنساء؟ هل التعديلات التي أُجريت على بعض هذه القوانين كافية لردم الهوة بين الجنسين، أم أن التغيير ظلّ سطحيًا ولم يمسّ جوهر المشكلة؟ ولماذا تبقى هذه القوانين أحد أكثر الملفات حساسية في أي محاولة للإصلاح القانوني والاجتماعي؟
رغم التقدم الذي شهدته بعض التشريعات العربية في مجالات حقوق المرأة، إلا أن قوانين الأحوال الشخصية لا تزال تُشكل عقبة رئيسية أمام تحقيق المساواة بين الجنسين. هذه القوانين، التي تستند في معظمها إلى تفسيرات دينية أو أعراف اجتماعية، تُحدد حقوق النساء في الزواج، الطلاق، الحضانة، والميراث، وغالبًا ما تنحاز بشكل واضح لصالح الرجل.
تقرير صادر عن منظمة “هيومن رايتس ووتش” عام 2023 أشار إلى أن معظم الدول العربية لا تزال تفرض قيودًا صارمة على حقوق النساء في الطلاق، حيث يمنح القانون الرجل سلطة تطليق زوجته بشكل منفرد، بينما تحتاج المرأة إلى مبررات قانونية معقدة للحصول على الطلاق، وقد تُجبر أحيانًا على التنازل عن حقوقها المالية أو حضانة أطفالها مقابل إنهاء الزواج.
المحامية الأردنية ليلى العبدالله، المختصة في قضايا الأحوال الشخصية، تؤكد أن “القوانين في معظم الدول العربية لا تزال تُعامل المرأة كقاصر، تحتاج إلى إذن الرجل في مسائل حياتية جوهرية. حتى في الدول التي أدخلت تعديلات على قوانين الأحوال الشخصية، ظلّ التطبيق خاضعًا للعقلية الذكورية السائدة داخل المحاكم والمؤسسات الدينية”.
الطلاق وحضانة الأطفال: عندما تتحول الأمومة إلى عقوبة
أحد أكثر الجوانب المثيرة للجدل في قوانين الأحوال الشخصية هو مسألة حضانة الأطفال بعد الطلاق. في العديد من الدول العربية، تُمنح الحضانة للأم لفترة محددة، ثم تنتقل تلقائيًا إلى الأب أو أحد أفراد عائلته الذكور، بغضّ النظر عن مصلحة الطفل أو وضع الأم.
في مصر، على سبيل المثال، تنتهي حضانة الأم للأطفال عند سن 15 عامًا، ثم يتم منح الأب حق نقلهم إليه، حتى لو لم يكن قادرًا على توفير بيئة مناسبة. في بعض الدول الأخرى، مثل السعودية قبل الإصلاحات الأخيرة، كانت النساء تواجه معارك قانونية طويلة فقط للحصول على حق رؤية أطفالهن بعد الطلاق.
الناشطة الحقوقية التونسية سعاد بن عاشور ترى أن “المرأة تُجبر على الاختيار بين حقها في الطلاق وحقها في أطفالها. هذا النظام القانوني يُستخدم كأداة عقابية ضد النساء اللواتي يقررن إنهاء الزواج، مما يدفع كثيرات للبقاء في علاقات مسيئة خوفًا من فقدان أطفالهن”.
الزواج القسري وزواج القاصرات: تشريعات لا تزال متأخرة
في كثير من الدول العربية، لا تزال القوانين تسمح بزواج القاصرات، إما عبر استثناءات قانونية، أو من خلال ثغرات يتم استغلالها لإجبار الفتيات على الزواج المبكر. رغم أن سن الزواج القانوني في معظم الدول محدد بـ 18 عامًا، إلا أن بعض الدول تسمح بتزويج الفتيات في سن أقل إذا وافق ولي الأمر أو المحكمة.
في اليمن، تشير الإحصائيات إلى أن أكثر من 32% من الفتيات يتم تزويجهن قبل سن 18، وفي السودان، لا يوجد حد أدنى قانوني للزواج، مما يُبقي آلاف الفتيات عرضة للإجبار على الزواج في سن مبكرة.
ترى الباحثة في قضايا المرأة المصرية نجلاء مرسي أن “القوانين التي تسمح بزواج القاصرات هي تشريعات تُكرّس العنف ضد النساء، لأنها تُجبر الفتاة على تحمّل مسؤوليات لا تناسب عمرها، وتحرمها من التعليم والحق في تقرير مصيرها. هذه الممارسات لا يمكن تبريرها تحت أي غطاء ديني أو ثقافي”.
الميراث: بين الشريعة وتفسيرات القانون
قضية الميراث تُعتبر من أكثر القضايا حساسية في الإصلاحات القانونية المتعلقة بحقوق النساء. في معظم الدول العربية، يتم توزيع الميراث وفقًا لأحكام الشريعة الإسلامية، التي تمنح الرجل نصيبًا أكبر من المرأة في بعض الحالات، مثل ميراث الأبناء، والأشقاء، والأزواج.
في تونس، قامت الدولة بإدخال تعديلات تتيح للمرأة والرجل المساواة في الميراث إذا اتفق الورثة على ذلك، لكن هذه التعديلات واجهت معارضة قوية من المؤسسات الدينية ومن قطاعات واسعة من المجتمع. في المقابل، لا تزال دول أخرى تفرض تطبيقًا صارمًا لأحكام الميراث التقليدية، حتى في الحالات التي تُطالب فيها النساء بنصيب عادل.
تقول الخبيرة القانونية المغربية سناء الإدريسي إن “قوانين الميراث ليست مجرد مسألة دينية، بل هي قضية عدالة اجتماعية. هناك الكثير من الحالات التي يتم فيها حرمان النساء من الميراث بشكل كامل، سواء بسبب العادات أو بضغط من العائلة، مما يجعل هذه القوانين بحاجة إلى مراجعة جدية تضمن العدالة للجميع”.
إصلاحات قانونية أم تغييرات شكلية؟
رغم أن بعض الدول العربية قامت بإدخال إصلاحات على قوانين الأحوال الشخصية، إلا أن هذه التعديلات غالبًا ما تكون محدودة، ولا تمسّ جوهر المشكلة. العديد من القوانين لا تزال تعطي الأولوية لسلطة الرجل داخل الأسرة، مما يجعل أي حديث عن المساواة القانونية مجرد شعارات لا تُترجم إلى واقع فعلي.
في المغرب، تم تعديل مدونة الأسرة عام 2004 لمنح النساء حقوقًا أكبر في الطلاق وحضانة الأطفال، لكن التطبيق ظلّ يواجه صعوبات بسبب الأعراف المجتمعية الراسخة. في السعودية، أُجريت إصلاحات قانونية كبيرة تمنح النساء حقوقًا أوسع في السفر، والعمل، وإنهاء الزواج دون الحاجة إلى إذن ولي الأمر، لكن هذه التعديلات لا تزال حديثة، وتواجه تحديات في التطبيق العملي.
الخبير القانوني اللبناني جمال عيتاني يرى أن “أي إصلاح لقوانين الأحوال الشخصية يجب أن يكون شاملًا، وليس مجرد تعديلات جزئية تُبقي على التمييز في صور أخرى. المشكلة ليست فقط في القوانين، بل في العقلية المجتمعية التي ترفض فكرة المساواة داخل الأسرة، وترى أن الرجل يجب أن يكون الطرف المسيطر في كل القرارات”.
تبقى قوانين الأحوال الشخصية واحدة من أكبر العوائق أمام تحقيق العدالة الجندرية في العالم العربي. هذه القوانين لا تؤثر فقط على حياة النساء، بل تعيد إنتاج منظومة كاملة من التمييز، تجعل النساء أكثر ضعفًا أمام العنف الاجتماعي والاقتصادي والقانوني.
التغيير الحقيقي لا يمكن أن يحدث فقط من خلال تعديلات قانونية معزولة، بل يحتاج إلى تحولات ثقافية ومجتمعية تُعيد النظر في دور المرأة داخل الأسرة والمجتمع. يبقى السؤال الذي يفرض نفسه: هل يمكن للمجتمعات العربية أن تصل إلى قوانين أحوال شخصية أكثر عدالة، أم أن هذه القوانين ستظلّ ساحة معركة دائمة بين الحداثة والتقاليد؟