قبل عقود، كان استنزاف طبقة الأوزون أحد أكبر الكوارث البيئية التي هددت العالم، حيث تسببت المواد الكيميائية الصناعية، مثل مركبات الكلوروفلوروكربون (CFCs)، في إحداث ثقب في الطبقة الواقية التي تحمي الأرض من الأشعة فوق البنفسجية الضارة. استجابة لهذه الأزمة، اتخذ المجتمع الدولي خطوة تاريخية عبر بروتوكول مونتريال عام 1987، وهو الاتفاق الذي أدى إلى حظر تدريجي لهذه المركبات وإحراز تقدم في تعافي الأوزون. لكن على الرغم من النجاح النسبي الذي تحقق، تشير تقارير علمية حديثة إلى ظهور تهديدات جديدة قد تؤدي إلى عودة الخطر، مما يطرح تساؤلات جدية حول ما إذا كنا على أعتاب أزمة أوزون جديدة.
في عام 2019، أعلنت “المنظمة العالمية للأرصاد الجوية” أن طبقة الأوزون بدأت تتعافى، ومن المتوقع أن تعود إلى مستوياتها الطبيعية بحلول منتصف القرن. لكن هذا التفاؤل لم يدم طويلًا، حيث بدأت بعض الدراسات في رصد ارتفاع غير مبرر في مستويات بعض الغازات الضارة، ما أثار الشكوك حول استمرار التهديد. في عام 2021، كشفت دراسة نشرتها مجلة Nature أن هناك زيادة مفاجئة في انبعاثات مركبات الكلوروفلوروكربون، خاصة في مناطق من الصين، حيث يُعتقد أن بعض المصانع لا تزال تستخدم هذه المركبات بشكل غير قانوني.
التقرير ذاته أشار إلى أن تراجع مستويات الأوزون في بعض المناطق لم يكن فقط بسبب الانبعاثات الجديدة، بل أيضًا بسبب تأثيرات تغير المناخ، حيث تؤدي التيارات الهوائية المضطربة في الغلاف الجوي إلى إبطاء عملية تعافي الأوزون، ما يجعل العملية أكثر تعقيدًا مما كان متوقعًا.
يقول الدكتور حسن العطار، أستاذ علوم الغلاف الجوي بجامعة بغداد، إن “الاعتقاد بأن مشكلة الأوزون قد حُلَّت بالكامل كان تفاؤلًا سابقًا لأوانه. ما يحدث الآن هو أننا نواجه تهديدات جديدة، بعضها ناتج عن ممارسات صناعية غير قانونية، وبعضها بسبب التغيرات المناخية التي تعيد توزيع المواد الكيميائية في الغلاف الجوي بطرق غير متوقعة”.
كيف يؤثر تغير المناخ على الأوزون؟
رغم أن معظم الدراسات حول الأوزون ركزت في السابق على تأثير المواد الكيميائية، إلا أن التغير المناخي أصبح الآن عاملاً رئيسيًا في ديناميكيات الأوزون. مع ارتفاع درجات الحرارة العالمية، تتغير أنماط الرياح والتيارات الهوائية في الغلاف الجوي، مما يؤثر على توزيع المواد الكيميائية التي تساهم في تفكيك جزيئات الأوزون.
بالإضافة إلى ذلك، تتسبب زيادة تركيزات ثاني أكسيد الكربون في تبريد الطبقات العليا من الغلاف الجوي، ما يؤدي إلى تأخير عملية التعافي الطبيعي للأوزون. في القارة القطبية الجنوبية، حيث يوجد أكبر ثقب في الأوزون، لوحظ أن التقلبات المناخية تزيد من تعقيد التنبؤ بكيفية تعافي هذه الطبقة، مما يجعل بعض العلماء يتساءلون عما إذا كان التحسن المتوقع سيستمر أم أن الأزمة قد تعود في العقود القادمة.
يقول الدكتور جمال خليل، الباحث في تغير المناخ بجامعة القاهرة، إن “تغير المناخ ليس مجرد عامل جانبي في أزمة الأوزون، بل أصبح الآن أحد المحددات الرئيسية لمستقبل هذه الطبقة. إذا استمرت درجات الحرارة العالمية في الارتفاع، فإننا قد نواجه تحديات غير متوقعة تعرقل استعادة الأوزون إلى مستوياته الطبيعية”.
منذ تطبيق بروتوكول مونتريال، تم استبدال مركبات الكلوروفلوروكربون ببدائل أقل ضررًا، مثل مركبات الهيدروفلوروكربون (HFCs)، التي لا تؤثر بشكل مباشر على الأوزون، لكنها تمتلك قدرة عالية على احتباس الحرارة، ما يجعلها مساهمًا رئيسيًا في الاحتباس الحراري. رغم أن هذه المركبات لم تكن محور القلق في الماضي، فإن الوعي المتزايد بتأثيراتها على المناخ دفع العلماء إلى التحذير من أنها قد تكون “حلاً أسوأ من المشكلة الأصلية”.
التعامل مع هذه الأزمة أصبح معقدًا، حيث أن التخلص من مركبات الكلوروفلوروكربون كان خطوة إيجابية، لكنه أدى إلى زيادة الاعتماد على مركبات أخرى قد تسهم في تفاقم مشكلة التغير المناخي. لهذا السبب، تم توقيع تعديل كيغالي على بروتوكول مونتريال عام 2016، والذي يهدف إلى تقليل استخدام مركبات الهيدروفلوروكربون والبحث عن بدائل أكثر استدامة.
يرى الدكتور خليفة الكندري، أستاذ الكيمياء البيئية بجامعة الكويت، أن “التحول إلى مركبات جديدة كان ضروريًا لحماية الأوزون، لكننا الآن أمام معضلة أخرى، حيث أن بعض البدائل المستخدمة تساهم في الاحتباس الحراري، مما يفرض علينا البحث عن حلول جديدة أكثر استدامة”.
ماذا يعني ذلك للعالم العربي؟
بالنظر إلى الدول العربية، فإن تأثيرات تآكل الأوزون قد لا تكون ظاهرة بشكل مباشر كما هو الحال في المناطق القطبية، لكن التعرض المتزايد للأشعة فوق البنفسجية يحمل تداعيات صحية خطيرة، مثل ارتفاع معدلات سرطان الجلد، وزيادة مشكلات العيون مثل إعتام عدسة العين، إلى جانب التأثيرات السلبية على المحاصيل الزراعية.
بعض الدول العربية بدأت بالفعل في اتخاذ خطوات لمواجهة هذا التحدي، حيث تبنت الإمارات والمغرب سياسات تهدف إلى تقليل الاعتماد على المركبات الضارة بطبقة الأوزون، بينما تعمل مصر على تنفيذ خطط لاستبدال المبردات الصناعية ببدائل صديقة للبيئة.
لكن رغم هذه الجهود، لا يزال هناك نقص في الوعي بأهمية حماية الأوزون على المستوى الشعبي، حيث لا تزال العديد من المنتجات التي تحتوي على مركبات ضارة متاحة في الأسواق، مما يجعل الحاجة إلى تعزيز التشريعات البيئية أمرًا ملحًا.
يقول الدكتور نزار العوضي، الخبير في السياسات البيئية بجامعة حلوان، إن “الدول العربية بحاجة إلى التركيز ليس فقط على تقليل الانبعاثات التي تؤثر على الأوزون، بل أيضًا على إدماج حماية هذه الطبقة ضمن استراتيجيات التكيف مع تغير المناخ. العلاقة بين الأوزون والمناخ لم تعد مسألة منفصلة، بل أصبحت جزءًا من معركة واحدة ضد التدهور البيئي”.
رغم أن العالم حقق تقدمًا ملحوظًا في تقليل استنزاف الأوزون، إلا أن ظهور تحديات جديدة يثير المخاوف من أن الأزمة قد تعود بشكل غير متوقع. بين الانبعاثات الصناعية غير القانونية، وتأثيرات تغير المناخ، واستخدام مركبات جديدة قد تكون ضارة بطرق أخرى، يظل مستقبل الأوزون غير مؤكد.
السؤال المطروح اليوم هو: هل سيتحرك المجتمع الدولي بسرعة كافية لمواجهة هذه التهديدات قبل فوات الأوان، أم أننا سنجد أنفسنا أمام أزمة بيئية جديدة تُعيد العالم إلى نقطة الصفر؟ الجواب يعتمد على مدى التزام الدول بفرض قوانين أكثر صرامة، وتطوير تقنيات جديدة لا تؤثر سلبًا على البيئة، وضمان أن التقدم الذي تحقق خلال العقود الماضية لن يذهب هباءً بسبب الإهمال أو المصالح الاقتصادية قصيرة المدى.