Spread the love

تمثل أزمة وقف إمدادات الغاز الروسي عبر أوكرانيا لحظة فارقة في العلاقات الاقتصادية والسياسية بين موسكو وأوروبا، حيث تعكس هذه الخطوة طبيعة الصراع الجيوسياسي العميق بين الغرب وروسيا. فبينما ترى موسكو أن القرار الأوكراني بوقف ضخ الغاز هو نتيجة لضغوط أمريكية تهدف إلى تقويض الاقتصاد الروسي وزيادة اعتماد أوروبا على الغاز الأمريكي المسال، تؤكد كييف أن إنهاء الاتفاق يأتي في سياق التحرر من الإرث الروسي وضمان سيادتها على أراضيها ومصادرها الحيوية.

على مدى العقود الماضية، لعب الغاز الروسي دوراً مركزياً في تأمين احتياجات أوروبا من الطاقة، حيث كانت أوكرانيا تمثل ممراً استراتيجياً يربط شبكات الإمداد الروسية بالمستهلكين الأوروبيين. ومع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في 2022، تصاعدت التوترات بين كييف وموسكو، وكان قطاع الطاقة أحد ميادين المواجهة الرئيسية، حيث سعت الدول الأوروبية إلى تقليل اعتمادها على الغاز الروسي، بينما عززت موسكو علاقاتها مع دول أخرى مثل الصين والهند وإيران لتعويض الخسائر في السوق الأوروبية.

تحاول روسيا تصوير قرار أوكرانيا بوقف عبور الغاز على أنه ليس مجرد خطوة سياسية بل جزء من مخطط غربي أوسع تقوده الولايات المتحدة للسيطرة على سوق الطاقة الأوروبي. فمن خلال زيادة صادرات الغاز المسال إلى أوروبا، تضمن واشنطن احتكار جزء كبير من هذا السوق، رغم ارتفاع تكلفة الغاز الأمريكي مقارنة بنظيره الروسي. وفي الوقت ذاته، فإن الدول الأوروبية تجد نفسها في مأزق بين الحاجة إلى تأمين إمدادات الطاقة بأسعار معقولة وبين التزاماتها السياسية بدعم أوكرانيا في مواجهة روسيا.

الأثر الفوري لوقف الإمدادات قد يكون محدوداً، نظراً لأن الدول الأوروبية اتخذت خلال العامين الماضيين خطوات مكثفة لتنويع مصادر الطاقة، بما في ذلك استيراد الغاز المسال من قطر والولايات المتحدة، والاعتماد بشكل متزايد على الطاقة المتجددة. ومع ذلك، فإن هذه التغييرات لم تكن كافية لتعويض الفجوة التي يتركها الغاز الروسي، حيث لا تزال العديد من الدول، خصوصاً ألمانيا والنمسا وسلوفاكيا، تعتمد جزئياً على الغاز القادم من روسيا عبر طرق بديلة مثل خط أنابيب “ترك ستريم” عبر تركيا.

على المستوى الأوسع، تعكس هذه الأزمة تحولات جذرية في المشهد الطاقي العالمي، حيث تسعى موسكو إلى إعادة توجيه صادراتها نحو آسيا، بينما تحاول أوروبا بناء منظومة طاقة أكثر استقلالية عن روسيا. غير أن هذه التغييرات تأتي بتكلفة اقتصادية مرتفعة، حيث تواجه أوروبا تحديات التضخم وارتفاع أسعار الطاقة، مما يضع الحكومات الأوروبية في موقف صعب أمام شعوبها.

في المقابل، فإن روسيا رغم أنها تبدو متضررة اقتصادياً بسبب فقدان سوقها التقليدي في أوروبا، إلا أنها تراهن على تعزيز علاقاتها الاقتصادية مع قوى أخرى مثل الصين والهند، اللتين أصبحتا مستوردتين رئيسيتين للغاز والنفط الروسي. كما تعمل موسكو على تعزيز قدراتها في تصدير الغاز المسال، وإنشاء خطوط أنابيب جديدة لتجاوز العقوبات الغربية.

أما أوكرانيا، فإنها تجد نفسها أمام تحديات اقتصادية متزايدة، حيث كانت رسوم عبور الغاز الروسي تمثل مصدراً مهماً للعائدات المالية. ومع وقف العبور، تفقد كييف أحد أوراق الضغط المهمة التي كانت تمتلكها في مواجهة موسكو، مما يدفعها إلى البحث عن بدائل اقتصادية جديدة لتعويض هذه الخسائر.

يبدو أن قرار إنهاء عبور الغاز الروسي عبر أوكرانيا ليس سوى جزء من معركة أوسع بين القوى الكبرى، حيث تسعى الولايات المتحدة لتعزيز نفوذها الطاقي في أوروبا، بينما تحاول روسيا إعادة ترتيب علاقاتها الاقتصادية بعيداً عن الغرب. أما الدول الأوروبية، فتجد نفسها في موقف صعب بين تحقيق أمنها الطاقي وبين التزاماتها الجيوسياسية، وهو ما يجعل من أزمة الطاقة الحالية واحدة من أكثر القضايا تعقيداً في المشهد الدولي الراهن.

“بعمق” زاوية أسبوعية سياسية تحليلية على “شُبّاك” يكتبها رئيس التحرير: مالك الحافظ

error: Content is protected !!