تشهد إسبانيا حالياً أزمة سياسية قد تكون فارقة في مستقبل المشهد الحزبي والائتلافي الأوروبي. هذه الأزمة تنبع من تعقيدات نتائج الانتخابات التشريعية التي جرت في 23 يوليو/تموز الماضي، حيث كشفت الانتخابات عن تحول في التوازنات السياسية داخل البلاد، مما جعل تشكيل الحكومة مهمة شبه مستحيلة للحزب الشعبي المحافظ رغم فوزه بالمركز الأول.
رغم أن الحزب الشعبي حصد أعلى عدد من الأصوات، إلا أن الوصول إلى الأغلبية المطلقة أصبح بعيد المنال. هذا يعود إلى رفض الأحزاب القومية، بشقيها اليساري واليميني، التحالف مع الحزب الشعبي بسبب مواقفه المناهضة لمطالب الحركات القومية الإقليمية، خصوصاً في كتالونيا وبلد الباسك. وبالإضافة إلى ذلك، أصبح دخول حزب فوكس اليميني المتطرف ضمن أي تحالف عقبة كبرى أمام جذب الدعم من الأطراف السياسية الأخرى، مما يعكس أزمة الثقة في التحالفات التي تشمل قوى متطرفة.
على الجانب الآخر، تبنى رئيس الحكومة المؤقتة بيدرو سانشيز نهجاً مغايراً من خلال الدعوة إلى تشكيل حكومة تعتمد على “الأغلبية الاجتماعية”، مستنداً إلى قاعدة أصوات الأحزاب اليسارية والقومية. هذه الاستراتيجية تعكس تحولا في مفهوم الشرعية الديمقراطية، من الاعتماد على نتائج المقاعد البرلمانية وحدها إلى التركيز على إرادة الناخبين كما تعبر عنها التحالفات السياسية العريضة.
لعبت الأحزاب القومية في كتالونيا وبلد الباسك دوراً حاسماً في تعقيد المشهد. ففي حين ترفض هذه الأحزاب دعم الحزب الشعبي بسبب مواقفه المتشددة تجاه القضايا القومية، فإنها تميل إلى دعم تحالف يساري يقوده الحزب الاشتراكي. ومع ذلك، يبقى مفتاح التوازن السياسي في يد حزب “جميعاً من أجل كتالونيا”، الذي يطالب بضمانات سياسية تتعلق بمستقبل الإقليم كشرط لدعم أي ائتلاف.
تكتسب الأزمة السياسية في إسبانيا أهمية خاصة كونها تأتي في سياق أوروبي يشهد صعوداً ملحوظاً لليمين المتطرف في العديد من الدول. على عكس اتجاهات مثل تلك التي شهدتها إيطاليا والسويد، أظهرت إسبانيا مقاومة لهذا المد، مما يعزز مكانتها كاستثناء في الخريطة السياسية الأوروبية. ففي حين نجحت دول مثل فرنسا والبرتغال في إبقاء اليمين المتطرف بعيداً عن السلطة، تقدم الأزمة الإسبانية نموذجاً جديداً لكيفية تأثير الحركات القومية والأحزاب اليسارية في الحد من وصول هذه القوى إلى الحكم.
إذا تمكن الحزب الاشتراكي من تشكيل حكومة ائتلافية، فإن ذلك سيمثل تغيراً جوهرياً في قواعد اللعبة السياسية الإسبانية، حيث سينتهي التقليد الذي اعتاد على منح الحزب الفائز بالانتخابات حق تشكيل الحكومة تلقائياً. كما أن نجاح هذا الائتلاف سيعيد التأكيد على أن الديمقراطيات الأوروبية قادرة على التكيف مع التحولات السياسية والاجتماعية، حتى في وجه صعود قوى متطرفة.
ما الذي يعنيه هذا التحول بالنسبة لمستقبل الديمقراطية في إسبانيا؟ وهل يمكن أن يشكل هذا النموذج مصدر إلهام لدول أخرى تسعى للحد من نفوذ اليمين المتطرف؟ وكيف يمكن للأحزاب القومية أن تستغل دورها المحوري في بناء شراكات سياسية تحقق مكاسب لإقليمها ضمن إطار الدولة الموحدة؟
تجسد الأزمة السياسية الإسبانية اليوم صورة مصغرة عن صراع أوسع يجري في أوروبا بين قيم الديمقراطية التقليدية وصعود الشعبوية والتطرف. ويبقى التحدي الأكبر هو تحقيق توازن سياسي يحترم التعددية ويمنع احتكار السلطة من قبل أي تيار قد يهدد أسس الديمقراطية.
“بعمق” زاوية أسبوعية على “شُبّاك” يكتبها رئيس التحرير: مالك الحافظ