Spread the love

تمر ألمانيا بأزمة سياسية غير مسبوقة تهدد استقرار حكومتها الائتلافية، وتضع المستشار أولاف شولتس أمام اختبار صعب قد يؤدي إلى تفكيك حكومته بالكامل، وربما فتح الباب أمام انتخابات مبكرة تخلط الأوراق السياسية في البلاد. فقرار شولتس إقالة وزير المالية كريستيان ليندنر لم يكن مجرد خطوة تصحيحية داخل الحكومة، بل كان بمثابة الشرارة التي أشعلت أزمة عميقة داخل التحالف الحاكم، المكون من الحزب الاشتراكي الديمقراطي، والحزب الديمقراطي الحر، وحزب الخضر. هذا الائتلاف، الذي كان يحمل اسم “ائتلاف التقدم”، تحول اليوم إلى نموذج صارخ للجمود السياسي، بعد تفاقم الخلافات حول الميزانية والإصلاحات الاقتصادية، مما أدى إلى انهياره بشكل دراماتيكي.

لم تأتِ هذه الأزمة من فراغ، فقد شهدت الأشهر الماضية صراعاً داخلياً متصاعداً بين أطراف التحالف، خاصة بين الحزب الديمقراطي الحر، الممثل لتيار الليبرالية الاقتصادية، والحزبين الآخرين، الاشتراكي والخضر، اللذين يفضلان سياسات أكثر تدخلاً في الاقتصاد. الخلافات حول ميزانية 2025 كانت بمثابة القشة التي قصمت ظهر الائتلاف، حيث رفض ليندنر تقديم تنازلات حول خطط التقشف المالي، في وقت تحتاج فيه ألمانيا إلى استثمارات ضخمة للخروج من أزمتها الاقتصادية. هذا المأزق وضع شولتس أمام خيارين أحلاهما مر: إما المضي قدماً في تحالف ضعيف ومنهار، أو اتخاذ قرارات جذرية تعيد ترتيب المشهد السياسي الألماني.

إقالة ليندنر جاءت كخطوة محسوبة من المستشار، لكنها أدت إلى نتائج غير متوقعة. فقد انسحب الحزب الديمقراطي الحر من الائتلاف، مما جعل الحكومة في وضع أقلية برلمانية، وهو ما يزيد من احتمالات فشلها في تمرير القوانين الرئيسية، خاصة المتعلقة بالاقتصاد والدعم المالي لأوكرانيا. ردود الفعل على هذه الإقالة عكست حجم الانقسام العميق داخل الحكومة، حيث شنّ ليندنر هجوماً مباشراً على شولتس، متهماً إياه بالسعي لتفكيك التحالف عمداً، بينما عبّر حزب الخضر عن استغرابه من قرار الإقالة، ما يعكس حجم التوترات الداخلية.

في ظل هذا الوضع، قرر شولتس اللجوء إلى خيار التصويت على الثقة في البرلمان في 15 يناير 2025، في خطوة تهدف إلى إعادة ترتيب المشهد السياسي، وإيجاد مخرج من الأزمة الحالية. لكن هذا القرار يواجه تحديات كبيرة، خاصة مع تصاعد الضغوط من المعارضة التي تطالب بتقديم التصويت إلى أقرب وقت ممكن، بهدف الإسراع في إسقاط الحكومة وفتح المجال أمام انتخابات مبكرة. زعيم المعارضة فريدريش ميرتس من الحزب الديمقراطي المسيحي يضغط باتجاه إجراء التصويت في غضون أيام، وليس بعد أسابيع، ما يعكس رغبة اليمين في استغلال الأزمة الحالية لإضعاف حكومة شولتس بأسرع وقت ممكن.

التداعيات المحتملة لهذه الأزمة لا تقتصر على المشهد السياسي الداخلي فقط، بل تمتد إلى مجمل التوازنات الاقتصادية والأمنية في ألمانيا وأوروبا. فألمانيا، القوة الاقتصادية الأكبر في القارة، تواجه في الأساس أزمة صناعية حادة، تفاقمت بسبب ارتفاع تكاليف الطاقة بعد الحرب في أوكرانيا، وتراجع الإنتاج الصناعي، وتزايد المخاوف من تأثير السياسات الحمائية الأمريكية إذا ما فاز دونالد ترامب بالرئاسة مجدداً. انهيار الائتلاف الحاكم يزيد من هذه المخاطر، حيث من المتوقع أن يؤدي الجمود السياسي إلى تأخير تنفيذ إصلاحات ضرورية لإنعاش الاقتصاد، في وقت تحتاج فيه ألمانيا إلى اتخاذ قرارات سريعة لإنقاذ قطاعها الصناعي من الركود.

على المستوى الأوروبي، تثير الأزمة في برلين قلقاً واسعاً، نظراً للدور المحوري الذي تلعبه ألمانيا في قيادة الاتحاد الأوروبي. فالاضطرابات السياسية في برلين قد تؤدي إلى إضعاف موقف أوروبا في مواجهة التحديات الأمنية والاقتصادية، لا سيما فيما يتعلق بالحرب في أوكرانيا، والعلاقات مع الولايات المتحدة، وملف الطاقة. التصويت على الثقة، سواء انتهى ببقاء شولتس في السلطة أو أدى إلى انتخابات مبكرة، سيكون لحظة مفصلية تحدد مستقبل ألمانيا في السنوات المقبلة، وستؤثر نتائجه بشكل مباشر على استقرار أوروبا بأكملها.

الأزمة الحالية تضع ألمانيا أمام سيناريوهين رئيسيين: الأول، نجاح شولتس في اجتياز تصويت الثقة، لكنه سيبقى في وضع حكومة ضعيفة تواجه صعوبات في تمرير سياساتها، مما قد يؤدي إلى استمرار حالة عدم الاستقرار حتى موعد الانتخابات المقبلة في 2025. أما السيناريو الثاني، فهو فشل شولتس في الحصول على ثقة البرلمان، ما سيؤدي إلى انتخابات مبكرة ستعيد تشكيل المشهد السياسي بالكامل، وربما تعيد الحزب الديمقراطي المسيحي إلى السلطة. في كلتا الحالتين، يبقى المؤكد أن ألمانيا أمام مرحلة سياسية صعبة، ستحدد ليس فقط مستقبل حكومتها، بل أيضاً موقعها كقوة رئيسية في أوروبا.

“بعمق” زاوية أسبوعية سياسية تحليلية على “شُبّاك” يكتبها رئيس التحرير: مالك الحافظ

error: Content is protected !!