تتزايد المخاوف في الأوساط السياسية والاقتصادية الأوروبية من التداعيات المحتملة لعودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وهو ما عبّر عنه رئيس الوزراء الفرنسي فرانسوا بايرو بتحذيراته من أن أوروبا قد تجد نفسها “مُسحَقة” بفعل السياسات الاقتصادية الأمريكية والصينية. هذا التحذير لا يأتي من فراغ، بل يستند إلى معطيات موضوعية تعكس تراجع نفوذ الاتحاد الأوروبي في المشهد الدولي، نتيجة عوامل داخلية وأخرى خارجية، في مقدمتها السياسة الاقتصادية العدوانية لواشنطن وبكين على حد سواء.
لا يخفي ترامب منذ ولايته الأولى موقفه المتشدد تجاه الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة، حيث تبنى سياسات “أمريكا أولاً” التي أعطت الأولوية للمصالح الاقتصادية الأمريكية على حساب الشراكات التقليدية، وهو ما انعكس في فرض رسوم جمركية على الواردات الأوروبية، والضغط على الشركات الأمريكية للحد من استثماراتها الخارجية وإعادتها إلى الداخل. ومن المتوقع أن يسير ترامب في الاتجاه نفسه مجدداً، عبر فرض سياسات حمائية أكثر تشدداً، ما قد يؤدي إلى إضعاف الشركات الأوروبية أمام نظيراتها الأمريكية، لا سيما في القطاعات الاستراتيجية مثل التكنولوجيا والصناعات المتقدمة.
إلى جانب ذلك، فإن سياسة واشنطن المالية القائمة على تعزيز هيمنة الدولار تؤدي إلى تهميش اقتصادات الدول الأخرى، وتجعل من الصعب على أوروبا تطوير استقلالها المالي بعيداً عن التأثير الأمريكي. وقد رأينا كيف استُخدم الدولار كأداة ضغط خلال العقوبات المفروضة على دول مثل إيران وروسيا، مما أظهر مدى هشاشة الاستقلالية المالية الأوروبية أمام القرارات الصادرة من واشنطن. فهل ستظل أوروبا رهينة لهذه المعادلة، أم أنها ستتحرك كما دعا بايرو لاستعادة التوازن؟
في المقابل، لا تقل الهيمنة الصينية خطورة على أوروبا، حيث تتبع بكين سياسة توسعية لا تقتصر فقط على تعزيز فائضها التجاري، بل تمتد إلى السيطرة على الأسواق الأوروبية عبر استثمارات ضخمة في البنية التحتية والتكنولوجيا والطاقة. الفائض التجاري الصيني القياسي الذي تجاوز الألف مليار دولار يعكس مدى نجاح بكين في توسيع نفوذها على حساب الدول الغربية، وهو ما يضع أوروبا أمام تحدٍ مزدوج: كيف يمكنها مواجهة الضغوط الأمريكية من جهة، والتوسع الصيني من جهة أخرى؟
الواقع أن أوروبا تعاني من أزمة داخلية تحول دون قدرتها على الرد بفعالية على هذه التحديات. إذ يعاني الاتحاد الأوروبي من انقسامات سياسية بين دوله الأعضاء، كما أن صعود الأحزاب القومية والشعبوية يزيد من صعوبة تبني سياسات موحدة لمواجهة التحديات الخارجية. في حين أن فرنسا وألمانيا تدفعان نحو مزيد من الاستقلالية الأوروبية، فإن دولاً أخرى، مثل بولندا والمجر، تميل إلى تعزيز علاقاتها مع واشنطن، ما يعقد أي محاولات لتشكيل جبهة أوروبية موحدة في مواجهة الضغوط الأمريكية والصينية.
لا شك أن فرنسا، بصفتها إحدى القوى الكبرى داخل الاتحاد الأوروبي، تدرك خطورة المرحلة القادمة، ومن هنا تأتي تصريحات بايرو التي تعكس وعياً متزايداً بضرورة التحرك بسرعة لاستعادة زمام المبادرة. لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل تمتلك أوروبا الأدوات الكافية لمواجهة هذا التحدي؟
إحدى الخطوات التي يمكن أن تتخذها أوروبا هي تعزيز استقلالها الصناعي والتكنولوجي، من خلال دعم الشركات الأوروبية في مواجهة المنافسة الأمريكية والصينية. وقد بدأت بالفعل بعض التحركات في هذا الاتجاه، مثل السعي إلى تطوير صناعة الرقائق الإلكترونية داخل القارة بدلاً من الاعتماد على آسيا، فضلاً عن محاولات إنشاء نظام مالي بديل يقلل من الاعتماد على الدولار. لكن هذه الجهود لا تزال في مراحلها الأولية، وتتطلب إرادة سياسية قوية واستثمارات ضخمة لضمان نجاحها.
أما على المستوى الجيوسياسي، فإن إعادة تقييم العلاقة مع الولايات المتحدة تبدو ضرورية. فبينما لا يمكن لأوروبا الاستغناء عن الشراكة مع واشنطن، فإن من مصلحتها أيضاً الحد من التبعية المطلقة للقرارات الأمريكية. ومن هنا، فإن تكثيف التعاون مع القوى الصاعدة مثل الهند، وتعزيز العلاقات مع دول الشرق الأوسط وأفريقيا، قد يكون من بين الحلول التي تساعد أوروبا على تنويع خياراتها وتقليل اعتمادها على الاقتصاد الأمريكي أو الصيني.
لا يمكن إنكار أن أوروبا تقف عند مفترق طرق حاسم. إما أن تتحرك بجرأة لاستعادة مكانتها كلاعب مستقل على الساحة الدولية، أو أن تواصل نهجها المتردد الذي قد يؤدي إلى تآكل نفوذها لصالح قوى أخرى. تصريحات بايرو تعكس إدراكاً متزايداً لهذا الخطر، لكنها تظل مجرد تحذيرات ما لم تُترجم إلى سياسات عملية تعيد رسم التوازنات الدولية. فهل تكون السنوات القادمة شاهدة على تحولات جذرية في الاستراتيجية الأوروبية، أم أن القارة العجوز ستواصل فقدان تأثيرها أمام قوى أكثر ديناميكية؟
“بعمق” زاوية أسبوعية سياسية تحليلية على “شُبّاك” يكتبها رئيس التحرير: مالك الحافظ