تعرضت حكومة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لانتكاسة سياسية خطيرة بعد أن أسقط البرلمان مشروع قانون الهجرة الذي كان من المفترض أن يشكل ركيزة أساسية لسياسات الهجرة الجديدة التي تسعى الحكومة إلى تطبيقها. لم يكن التصويت مجرد رفض لمشروع قانون، بل كان بمثابة اختبار حقيقي لمدى تماسك الأغلبية الحكومية، حيث كشف عن انقسامات عميقة داخل المشهد السياسي الفرنسي.
في الجمعية الوطنية، حصل اقتراح رفض القانون الذي تقدم به حزب الخُضر على 270 صوتًا مؤيدًا، مقابل 265 صوتًا معارضًا، مما أدى إلى فشل مشروع القانون بفارق ضئيل للغاية. هذا التصويت شكل ضربة موجعة لوزير الداخلية جيرار دارمانان، الذي كان من أشد المدافعين عن المشروع، ودفعه إلى تقديم استقالته، لكن الرئيس ماكرون رفضها في محاولة لاحتواء التداعيات.
ما يميز هذه الهزيمة أنها جاءت نتيجة تحالف نادر بين قوى سياسية متباينة، إذ اجتمع اليسار، واليمين المحافظ، واليمين المتطرف ضد القانون، مما جعل الحكومة محاصرة من جميع الاتجاهات.
الانقسامات داخل البرلمان: لماذا سقط مشروع القانون؟
كان من الواضح منذ البداية أن حكومة ماكرون لا تملك الأغلبية الكافية لتمرير القانون دون صعوبات، لكن المفاجأة الكبرى تمثلت في تكتل قوى سياسية مختلفة لإفشاله. نواب اليسار اعتبروا أن القانون كان قاسيًا للغاية على المهاجرين، بينما رأى نواب اليمين المتطرف والمحافظ أنه متساهل وغير كافٍ لمواجهة تحديات الهجرة، مما أدى إلى تحالف غير متوقع بينهما.
النائبة الشيوعية إلسا فوسيلون وصفت إسقاط القانون بأنه “انتصار للقيم الإنسانية”، معتبرة أن المشروع كان سيفتح الباب أمام إجراءات تعسفية ضد اللاجئين والمهاجرين غير النظاميين. على الطرف الآخر، احتفى زعيم حزب الجمهوريين المحافظ إريك سيوتي بهذه النتيجة، مؤكدًا أن المشروع الذي قدمته الحكومة “لا يلبي التحديات الحقيقية للهجرة”، وأن حزبه كان يدافع عن نسخة أكثر صرامة تم إقرارها سابقًا في مجلس الشيوخ.
أما مارين لوبان، زعيمة حزب “التجمع الوطني” اليميني المتطرف، فقد اعتبرت أن البرلمان الفرنسي قام بحماية البلاد من موجة هجرة غير مسبوقة، مشيرة إلى أن “ماكرون كان يحاول تمرير قانون يسهل استقبال المزيد من المهاجرين، وهو ما لن نسمح به أبدًا”. تصريحات لوبان تأتي في وقت يتزايد فيه نفوذ حزبها بشكل واضح، حيث يسعى اليمين المتطرف إلى تعزيز مواقعه قبل الانتخابات المقبلة.
رغم إسقاطه في الجمعية الوطنية، فإن مشروع قانون الهجرة لم يُلغَ بشكل نهائي، إذ لا يزال أمام الحكومة خيارات محدودة لمحاولة إنقاذه. يمكن لماكرون إعادته إلى مجلس الشيوخ، حيث يتمتع حزب الجمهوريين المحافظ بالأغلبية، لمحاولة التوصل إلى تسوية سياسية، لكنه سيحتاج إلى تنازلات كبيرة لإقناع المعارضة بقبوله.
هناك أيضًا احتمال تشكيل لجنة مشتركة متكافئة بين نواب الجمعية الوطنية وأعضاء مجلس الشيوخ، بهدف تعديل بعض البنود وإيجاد صيغة توافقية. ومع ذلك، فإن فرص نجاح هذا المسار تبدو ضعيفة في ظل الاستقطاب السياسي الحاد الذي ظهر خلال التصويت.
انعكاسات سياسية خطيرة على ماكرون وحكومته
هذه الهزيمة تعكس مدى ضعف ماكرون في البرلمان، حيث أصبح واضحًا أنه لا يملك القدرة على تمرير مشاريع القوانين الرئيسية دون دعم المعارضة. بعد إعادة انتخابه عام 2022، كان ماكرون يأمل في تشكيل تحالفات برلمانية مرنة لتمرير الإصلاحات التي يسعى إليها، لكن التصويت الأخير أظهر أنه أصبح محاصرًا سياسيًا، ولم يعد بإمكانه فرض أجندته بسهولة.
الباحث عيسى الأشقر، الخبير في العلوم السياسية، أشار إلى أن “هذه الهزيمة هي واحدة من أخطر الأزمات التي يواجهها ماكرون منذ توليه السلطة، حيث أظهرت أنه لم يعد يملك السيطرة على البرلمان، مما قد يعرّض حكومته لخطر الفشل في قضايا أساسية أخرى”.
في ظل هذا المشهد، قد يلجأ ماكرون إلى إعادة هيكلة حكومته، أو حتى إجراء انتخابات برلمانية مبكرة، لكن كلا الخيارين يحمل مخاطر سياسية كبيرة، خاصة أن اليمين المتطرف أصبح في موقع قوة غير مسبوق، ويستعد لاستغلال هذه الأزمة لتعزيز شعبيته قبل الانتخابات الأوروبية المقررة في 2024.
بالتأكيد، تأتي هذه الهزيمة في مصلحة مارين لوبان وحزبها التجمع الوطني، الذين باتوا يقدمون أنفسهم كبديل سياسي قادر على فرض سياسات أكثر تشددًا تجاه الهجرة. إذا استمر ماكرون في الفشل بتمرير مشاريعه الكبرى، فقد يجد نفسه في موقف أضعف خلال الانتخابات المقبلة، مما قد يمنح اليمين المتطرف فرصة حقيقية للوصول إلى الحكم.
في هذا السياق يؤكد الأشقر أن “لوبان تستغل كل خطأ سياسي يرتكبه ماكرون لتعزيز خطابها القومي، ومع فشل الحكومة في تمرير قانون الهجرة، ستواصل تعزيز شعبيتها كمدافعة عن الفرنسيين ضد الهجرة غير الشرعية”.
الخيارات أمام ماكرون تبدو محدودة، إذ لم يعد بإمكانه الاعتماد على أغلبيته البرلمانية لتمرير القوانين بسهولة. قد يضطر إلى التفاوض مع اليمين المحافظ، أو البحث عن طرق أخرى لتمرير مشروع القانون، مثل إصداره بمرسوم رئاسي، وهو ما قد يثير المزيد من الجدل السياسي والقانوني.
في كل الأحوال، بات واضحًا أن الهجرة أصبحت القضية الأكثر استقطابًا في فرنسا، وستكون محورًا رئيسيًا في الحملات الانتخابية المقبلة. وإذا لم يتمكن ماكرون من إيجاد طريقة فعالة للتعامل مع هذا الملف، فقد يكون ذلك بداية النهاية لنفوذه السياسي، ويفتح الباب أمام تغييرات جذرية في المشهد الفرنسي خلال السنوات المقبلة.