Spread the love

في خطوة مفاجئة لكنها تحمل دلالات استراتيجية عميقة، أقال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وزير الدفاع سيرغي شويغو، الذي شغل المنصب منذ عام 2012، وعين مكانه نائب رئيس الوزراء السابق أندريه بيلوسوف، وهو شخصية مدنية ذات خلفية اقتصادية، وليس لديه خبرة عسكرية. هذا التغيير يعد واحدًا من أكبر التعديلات في القيادة العسكرية الروسية منذ بدء الحرب في أوكرانيا في فبراير 2022، وهو يثير العديد من التساؤلات حول دلالاته وأبعاده السياسية والعسكرية والاقتصادية.

رغم أن شويغو لم يُبعد تمامًا عن المشهد، إذ تم تعيينه أمينًا عامًا لمجلس الأمن القومي، إلا أن هذه الخطوة يمكن قراءتها بأكثر من طريقة. فمن ناحية، قد يكون بوتين يسعى لحفظ ماء وجه شويغو عبر منحه منصبًا نظريًا أعلى، بدلًا من الإطاحة به كليًا، خصوصًا بعد الاتهامات بالفساد التي طالت مسؤولين في وزارة الدفاع، والانتقادات المتزايدة لفشل القيادة العسكرية في تحقيق نصر سريع في أوكرانيا.

لكن من ناحية أخرى، فإن هذه الإقالة قد تعكس عدم رضا بوتين عن أداء شويغو في إدارة الحرب، خصوصًا بعد الخسائر البشرية الضخمة التي قدرتها بريطانيا بأكثر من 355 ألف قتيل وجريح، مما يجعل إقالته تبدو كـ محاولة لتجديد القيادة العسكرية وإعادة هيكلة المؤسسة الدفاعية في مرحلة حساسة من الحرب.

تعيين أندريه بيلوسوف، وهو مسؤول اقتصادي بارز، في منصب وزير الدفاع يعد قرارًا غير تقليدي، خاصة في ظل حرب مفتوحة مع أوكرانيا. لكن بالنظر إلى تعليقات المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف، يمكن فهم المنطق الكامن وراء هذا التعيين. فقد أشار بيسكوف إلى أن روسيا تقترب من وضع مماثل لما كان عليه الاتحاد السوفيتي في منتصف الثمانينيات، عندما كان الإنفاق العسكري والأمني يشكل 7.4% من الميزانية الحكومية، مما يتطلب إدارة صارمة لهذا التمويل الضخم.

الحرب في أوكرانيا استنزفت موارد هائلة، وظهرت مزاعم بالفساد داخل وزارة الدفاع، مما قد يكون أحد الأسباب الرئيسية التي دفعت بوتين إلى تعيين شخصية ذات خلفية اقتصادية لضمان استخدام أكثر فاعلية للميزانية العسكرية.

بوتين يدرك أن استمرار الحرب يتطلب إدارة مالية دقيقة، خصوصًا في ظل العقوبات الغربية وضغوط الاقتصاد الروسي. بيلوسوف قد يكون الخيار الأمثل لضبط ميزانية الدفاع وجعلها أكثر استدامة.

المتغيرات في ساحة المعركة لم تعد تعتمد فقط على القادة العسكريين التقليديين، بل أيضًا على الإدارة الاقتصادية والتكنولوجية للحرب، وهو ما قد يكون السبب في تعيين بيلوسوف، الذي يملك خبرة في إدارة الابتكارات الاقتصادية والتكنولوجية.

رغم إقالة شويغو، فإن رئيس هيئة الأركان العامة فاليري غيراسيموف سيبقى في منصبه، وهو الشخص الذي يتولى توجيه الحرب فعليًا. هذا يعكس أن بوتين لم يفقد الثقة تمامًا في القيادة العسكرية الميدانية، لكنه يريد ضبط الإنفاق العسكري وتحسين الكفاءة الإدارية. كما أن استمرار وزير الخارجية سيرغي لافروف يعكس رغبة الكرملين في الاحتفاظ بخبرته الدبلوماسية، لا سيما في ظل التوترات المتزايدة مع الغرب والحاجة إلى مفاوضات مستقبلية.

تعيين بيلوسوف قد لا يعني تغييرات جذرية في الاستراتيجية العسكرية الروسية في أوكرانيا، لكنه قد يشير إلى تحول في كيفية إدارة موارد الحرب، وضبط الفساد في وزارة الدفاع، وتحقيق فعالية أكبر في الإنفاق العسكري.

مع ضبط الإنفاق العسكري، قد يكون هناك اتجاه لتحويل الحرب إلى صراع طويل الأمد، تعتمد فيه روسيا على قدرتها الاقتصادية لتحدي الغرب، بدلًا من الاعتماد فقط على التفوق العسكري.

تعيين شخصية مدنية في منصب وزير الدفاع يشير إلى أن بوتين يريد تعزيز سيطرة الكرملين على الجيش، وعدم ترك المجال للقيادة العسكرية لأن تتحول إلى “دولة داخل الدولة”، خصوصًا بعد التمرد الذي قاده يفغيني بريغوجين، زعيم فاغنر السابق.

تقديم شويغو كمسؤول عن الفشل العسكري ومن ثم نقله إلى منصب أعلى قد يكون تكتيكًا سياسيًا لامتصاص الغضب الشعبي داخل روسيا، خصوصًا بين أنصار الحرب الذين انتقدوا أداء وزارة الدفاع.

تعيين بيلوسوف يعكس استمرار سياسة تركيز السلطة في يد بوتين، حيث يتم تعيين مسؤولين مدنيين موالين له في المناصب الحساسة لضمان عدم وجود أي قوى موازية داخل الدولة.

يمكن أن يُنظر إلى استبدال وزير الدفاع بشخصية غير عسكرية كمؤشر على ضعف القيادة العسكرية، مما قد يؤثر على معنويات الجيش الروسي في ساحة المعركة.

إقالة شويغو وتعيين بيلوسوف قد تعكس مزيجًا من الاعتراف بفشل القيادة العسكرية التقليدية في تحقيق نصر سريع، ورغبة في إعادة تنظيم الموارد العسكرية بطريقة أكثر كفاءة. بوتين يدرك أن الحرب في أوكرانيا لن تُحسم قريبًا، وبالتالي فهو يسعى لضمان استمرارية المجهود الحربي بطريقة أكثر استدامة، عبر إدارة الإنفاق الدفاعي بشكل أفضل.

لكن التحدي الأكبر الذي يواجه الكرملين ليس فقط في ضبط الفساد أو تحسين إدارة الحرب، بل في إعادة بناء ثقة الداخل الروسي، في ظل حرب طالت أكثر مما كان متوقعًا، وأصبحت تكلفتها السياسية والاقتصادية تتزايد يومًا بعد يوم.

يبقى السؤال: هل يستطيع بيلوسوف، القادم من عالم الاقتصاد، تحقيق ما عجز عنه العسكريون؟ أم أن هذه مجرد خطوة أخرى لتأجيل الاعتراف بفشل الحرب؟ الأيام القادمة ستحمل الإجابة.

“بعمق” زاوية أسبوعية سياسية تحليلية على “شُبّاك” يكتبها رئيس التحرير: مالك الحافظ

error: Content is protected !!