تشكل عودة دونالد ترامب المحتملة إلى البيت الأبيض معركة سياسية ودبلوماسية مفتوحة، خاصة فيما يتعلق بإيران، التي لا تزال تعاني من تداعيات سياسة “الضغوط القصوى” التي تبناها خلال ولايته الأولى. الرسائل الإيرانية المبكرة إلى ترامب تكشف عن إدراك طهران العميق بأن المرحلة المقبلة قد تشهد تصعيداً غير مسبوق، لكنها في الوقت نفسه تحمل بين طياتها تحذيراً بأن إيران لم تعد كما كانت في 2017، وأن سياسات الماضي لن تؤدي سوى إلى مزيد من التعقيد.
إيران، التي عانت من العقوبات القاسية التي فرضها ترامب بعد انسحابه الأحادي من الاتفاق النووي في 2018، باتت اليوم في وضع مختلف تماماً عما كانت عليه قبل خمس سنوات. برنامجها النووي تطور بشكل غير مسبوق، حيث انتقلت من تخصيب اليورانيوم بنسبة 3.5% إلى مستويات خطيرة بلغت 60%، وهو مؤشر واضح على أن استراتيجية “الضغوط القصوى” لم تؤدِّ إلى كبح طموحاتها النووية، بل دفعتها إلى تسريع وتيرة تطوير قدراتها. الرسالة التي وجهها نائب الرئيس الإيراني للشؤون الاستراتيجية، محمد جواد ظريف، تعكس إدراك القيادة الإيرانية لهذا التحول، حيث أكد أن ترامب “كرجل حسابات” يجب أن يعيد تقييم نتائج سياساته السابقة قبل أن يقرر ما إذا كان سيواصل النهج نفسه أم سيبحث عن طريق آخر.
لكن هل يمكن لترامب تغيير نهجه تجاه إيران في حال عودته إلى البيت الأبيض؟ الحقيقة أن الرئيس الأمريكي السابق لا يؤمن بالحلول الوسط، وقد بنى جزءاً كبيراً من خطابه السياسي على فكرة التصعيد كأداة تفاوضية. إعادة فرض العقوبات على إيران لم تكن مجرد خطوة في السياسة الخارجية، بل كانت جزءاً من رؤيته الأوسع لإعادة ترتيب ميزان القوى في الشرق الأوسط. ومع ذلك، فإن الواقع الجيوسياسي تغير منذ مغادرته السلطة، ولم تعد إيران الطرف الوحيد الذي يشعر بآثار العقوبات الأمريكية، بل باتت واشنطن تواجه تحديات جديدة مع روسيا والصين، إضافة إلى تداعيات استمرار الحرب في أوكرانيا، مما قد يجعل من الصعب على الإدارة الأمريكية إعادة إنتاج سياسات الماضي بنفس الطريقة.
من جانبها، يبدو أن إيران تعتمد على مزيج من الرسائل المتناقضة تجاه الإدارة الأمريكية المقبلة، فهي من جهة تدعو ترامب إلى إعادة التفكير في سياساته، ومن جهة أخرى تستمر في تعزيز برنامجها النووي وتقوية تحالفاتها الإقليمية والدولية، خاصة مع الصين وروسيا. في هذا السياق، تدرك طهران أن أي محاولة للعودة إلى الاتفاق النووي ستتطلب تنازلات أمريكية أكبر مما كان متاحاً في 2015، وهو أمر قد يكون من الصعب تحقيقه في ظل مناخ سياسي أمريكي منقسم، حيث لا يزال الجمهوريون يرفضون أي اتفاق مع إيران، ويرون أن الضغط الاقتصادي والعسكري هو السبيل الوحيد لاحتوائها.
لكن إيران أيضاً ليست في موقع يسمح لها بالمناورة بلا قيود. فاقتصادها يعاني من عقوبات خانقة، واستمرار التصعيد مع واشنطن قد يؤدي إلى تآكل قدرتها على الصمود. وبينما تراهن طهران على تعزيز تحالفاتها مع الشرق، فإن استمرار سياسة المواجهة مع الغرب قد يؤدي إلى مزيد من العزلة، مما يضعها أمام معضلة الاختيار بين الاستمرار في نهج التحدي أو البحث عن تسوية جديدة بشروط أفضل.
الأسئلة الكبرى التي تطرح نفسها اليوم تتعلق بمستقبل العلاقة بين إيران وواشنطن في ظل عودة ترامب المحتملة. هل سيعيد ترامب سياسات 2017-2021 كما هي، أم سيبحث عن نهج جديد أكثر براغماتية؟ هل تستطيع إيران الاستمرار في استراتيجيتها النووية دون دفع ثمن أكبر؟ وهل يمكن أن تكون هناك نافذة دبلوماسية جديدة تسمح للطرفين بالخروج من دائرة التصعيد المستمر؟
في ظل غياب إجابات واضحة، يبقى الأمر المؤكد أن المواجهة بين إيران وأمريكا لم تنتهِ بعد، وأن أي تغيير في المعادلة سيكون رهناً بميزان القوى الإقليمي والدولي، وبمدى قدرة الطرفين على تجاوز إرث الماضي والتعامل مع التحديات الجديدة بعقلية مختلفة.
“بعمق” زاوية أسبوعية سياسية تحليلية على “شُبّاك” يكتبها رئيس التحرير: مالك الحافظ