عندما يُذكر استقلال الهند، تتجه الأنظار فوراً إلى شخصية المهاتما غاندي، ذلك الزعيم الروحي الذي قاد شعبه إلى الحرية من خلال فلسفة اللاعنف. لكن خلف هذا السرد التقليدي، هناك قصة أقل شهرة، تتعلق بالصراع الخفي بين غاندي وونستون تشرشل، رئيس الوزراء البريطاني الذي كان أحد أشد المعارضين لفكرة منح الهند استقلالها. رغم أن تشرشل كان يدرك أن نهاية الاستعمار البريطاني للهند مسألة وقت، فإنه بذل جهوداً استثنائية لإبطاء هذه العملية، ليس فقط بالقوة العسكرية، ولكن عبر سياسات اقتصادية، ودعاية سياسية، واستغلال الانقسامات الداخلية الهندية. كيف حاولت بريطانيا كبح الاستقلال بطرق غير تقليدية، ولماذا كانت العلاقة بين غاندي وتشرشل أكثر تعقيداً مما نتصور؟
بالنسبة لتشرشل، لم تكن الهند مجرد مستعمرة، بل كانت “جوهرة التاج البريطاني”، وكانت تمثل أكبر مصدر للموارد الخام والعمالة الرخيصة، فضلاً عن كونها سوقاً ضخمة للمنتجات البريطانية. كان تشرشل مؤمناً بأن فقدان الهند يعني بداية انهيار الإمبراطورية البريطانية، وهو ما سعى لمنعه بأي وسيلة. خلال الحرب العالمية الثانية، اعتبر أن دعم قضية استقلال الهند بمثابة خيانة لبريطانيا، ووصف زعماء الحركة الوطنية الهندية بـ”المخربين”، مؤكداً أن الهند غير قادرة على الحكم الذاتي بدون “التوجيه البريطاني”.
في خطاباته، لم يكن يخفي احتقاره لغاندي، حيث وصفه ذات مرة بأنه “محامٍ متمرد يتنكر في زي فقير”، في إشارة إلى ملابس غاندي البسيطة التي كانت جزءاً من رمزيته المناهضة للاستعمار. لم يكن هذا مجرد ازدراء شخصي، بل كان انعكاساً لرؤية تشرشل للعالم، حيث كان يرى في الاستعمار “رسالة حضارية”، وكان مقتنعاً بأن انسحاب بريطانيا من الهند سيؤدي إلى فوضى لا يمكن احتواؤها.
كيف استخدمت بريطانيا المجاعة كسلاح سياسي؟
أحد أكثر الفصول المظلمة في هذا الصراع كان مجاعة البنغال عام 1943، التي تسببت في وفاة ما يقرب من ثلاثة ملايين شخص. تشير الوثائق التاريخية إلى أن هذه المجاعة لم تكن مجرد كارثة طبيعية، بل كانت نتيجة مباشرة للسياسات البريطانية، حيث تم توجيه الموارد الغذائية من الهند لدعم المجهود الحربي البريطاني في الحرب العالمية الثانية.
رغم التحذيرات المتكررة من المسؤولين الهنود، رفض تشرشل إرسال مساعدات غذائية عاجلة للهند، بحجة أن الأولوية يجب أن تكون للحلفاء الأوروبيين، بل إنه ذهب إلى أبعد من ذلك، حين ألقى باللوم على الهنود أنفسهم، قائلاً: “إذا كان هناك نقص في الطعام، فلماذا لم يمتنع الهنود عن التكاثر؟”.
تعتبر مجاعة البنغال مثالاً صارخاً على كيف يمكن استخدام سياسات التجويع كأداة لإضعاف الحركة الاستقلالية، حيث كانت المجاعة وسيلة لإلهاء الشعب الهندي بالمشاكل الداخلية، وإضعاف قدرة القادة الهنود على تحدي السلطة البريطانية في تلك الفترة الحرجة.
كيف لعبت بريطانيا على الانقسامات الداخلية الهندية؟
إلى جانب القمع السياسي والاقتصادي، استخدمت بريطانيا استراتيجية فرق تسد، حيث شجعت الانقسامات بين الهندوس والمسلمين، مما أدى في النهاية إلى تقسيم الهند عند استقلالها عام 1947.
في السنوات الأخيرة من الحكم البريطاني، تم دعم رابطة المسلمين بقيادة محمد علي جناح، حيث قدمت بريطانيا نفسها كـ”وسيط محايد” بين المسلمين والهندوس، بينما كانت في الواقع تغذي الانقسامات الطائفية. كان الهدف من هذه السياسة إضعاف الوحدة الوطنية الهندية، وخلق وضع يجعل الانفصال بين الهند وباكستان أمراً محتوماً، وهو ما حدث بالفعل عندما تم تقسيم البلاد وسط أعمال عنف طائفية مدمرة أودت بحياة مئات الآلاف.
غاندي، الذي كان يدعو إلى وحدة الهندوس والمسلمين، حاول مقاومة هذا التوجه، لكنه واجه تحديات هائلة، خاصة مع تصاعد الخطاب الطائفي في السنوات الأخيرة من الاحتلال البريطاني. كان يدرك أن بريطانيا لن تسلم الهند بسهولة، لكنه لم يكن يتوقع أن إرثها الاستعماري سيستمر في التأثير على الهند وباكستان لعقود طويلة بعد رحيلها.
لماذا رضخت بريطانيا أخيراً لمنح الهند استقلالها؟
رغم كل محاولات بريطانيا لإبقاء قبضتها على الهند، فإن الضغوط الداخلية والدولية أصبحت في النهاية أقوى من أن يتم تجاهلها. بعد الحرب العالمية الثانية، كانت بريطانيا منهكة اقتصادياً، ولم تعد قادرة على تحمل تكاليف إدارة إمبراطورية مترامية الأطراف.
في عام 1947، اضطر رئيس الوزراء البريطاني كليمنت أتلي إلى إعلان استقلال الهند، لكن الانسحاب البريطاني جاء بطريقة فوضوية، حيث تم تسليم السلطة بسرعة، مما أدى إلى تصاعد أعمال العنف بين الهندوس والمسلمين، وهو ما عزز الفوضى التي كان تشرشل يحذر منها طوال الوقت.
بالنسبة للبريطانيين، كان الانسحاب يعني نهاية فصل طويل من الاستعمار، لكن بالنسبة للهند، كان الاستقلال بداية لصراع جديد حول بناء الدولة الحديثة، والتعامل مع الإرث الذي تركه البريطانيون وراءهم.
كيف لا تزال آثار هذا الصراع قائمة اليوم؟
رغم مرور أكثر من سبعين عاماً على استقلال الهند، لا تزال آثار الصراع بين غاندي وتشرشل واضحة في المشهد السياسي الهندي والبريطاني. العلاقات بين البلدين لا تزال متأثرة بإرث الاستعمار، حيث لا يزال هناك جدل في بريطانيا حول كيفية التعامل مع تاريخها الإمبريالي، بينما في الهند، لا تزال تداعيات تقسيم البلاد تؤثر على العلاقات بين الهند وباكستان.
في السنوات الأخيرة، شهدت الهند دعوات متزايدة لمطالبة بريطانيا بالاعتذار عن مجاعة البنغال، وإعادة بعض الكنوز التي تم نهبها خلال الحقبة الاستعمارية، مثل ماسة كوهينور الشهيرة، التي لا تزال جزءاً من التاج البريطاني. في الوقت نفسه، بدأ المؤرخون بإعادة تقييم دور بريطانيا في تشكيل الهند الحديثة، وتسليط الضوء على كيف أن الاستقلال لم يكن مجرد انتصار للهند، بل كان أيضاً نتيجة لضغوط لم يعد بإمكان بريطانيا مقاومتها.
من بين الأسئلة التي تثار حول هذه الحقبة هو ما إذا كان غاندي قد أخطأ في الاعتماد على اللاعنف كمبدأ استراتيجي، خاصة في مواجهة قوة استعمارية لم تتردد في استخدام التجويع، والتقسيم، والقمع السياسي للحفاظ على سيطرتها. هل كان يمكن للهند أن تحقق استقلالها بشكل أسرع لو لجأت إلى المقاومة المسلحة كما فعلت دول أخرى؟
لكن في النهاية، يبقى غاندي رمزاً عالمياً للتحرر السلمي، بينما تظل شخصية تشرشل مثيرة للجدل، حيث يُنظر إليه في الغرب كبطل حرب، بينما في الهند، لا يزال يُعتبر أحد أكثر الشخصيات المكروهة بسبب سياساته الاستعمارية.
كان صراع غاندي وتشرشل أكثر من مجرد مواجهة بين شخصين، بل كان رمزاً لصراع أكبر بين الاستعمار والتحرر، وبين القوة العسكرية والفكر الإنساني، وبين عالم قديم قائم على الإمبراطوريات، وعالم جديد قائم على سيادة الشعوب. ورغم انتصار الهند في هذه المعركة، فإن إرث هذا الصراع لا يزال يتردد صداه في صفحات التاريخ حتى اليوم.