في الثامن والعشرين من يونيو عام 1914، وقف الأرشيدوق النمساوي فرانز فرديناند في سيارة مكشوفة بشوارع سراييفو، غير مدرك أنه كان على وشك أن يصبح الشرارة التي ستغير العالم إلى الأبد. عندما أطلق الشاب الصربي غافريلو برينسيب رصاصته القاتلة، لم يكن أحد يتوقع أن هذا الحدث سيؤدي إلى واحدة من أكثر الحروب دماراً في التاريخ الحديث، حيث اندلعت الحرب العالمية الأولى بعد أسابيع فقط، وسحبت أوروبا والعالم إلى دوامة من الصراعات الدموية. لكن هل كان اغتيال الأرشيدوق السبب الحقيقي للحرب، أم مجرد ذريعة استخدمتها القوى الكبرى لتصفية حساباتها القديمة؟
التوترات الأوروبية قبل الاغتيال
لم يكن الوضع في أوروبا قبل 1914 مستقراً، بل كان مشحوناً بالتوترات السياسية والعسكرية، حيث كانت القارة منقسمة إلى تحالفين رئيسيين: التحالف الثلاثي الذي ضم ألمانيا، والنمسا-المجر، وإيطاليا، في مواجهة الوفاق الثلاثي الذي ضم بريطانيا، وفرنسا، وروسيا. كانت هذه التحالفات بمثابة قنابل موقوتة تنتظر أي شرارة لتنفجر، حيث كانت الدول الكبرى تتنافس على المستعمرات والنفوذ، وتستعد لصراع محتمل عبر سباق تسلح ضخم.
في البلقان، كان الوضع أكثر تعقيداً، حيث كانت الإمبراطورية النمساوية-المجرية تفرض سيطرتها على مناطق ذات غالبية صربية وكرواتية، مما أثار غضب القوميين السلاف، الذين أرادوا الانفصال والانضمام إلى صربيا. كان اغتيال الأرشيدوق، الذي كان الوريث المباشر للعرش النمساوي، بمثابة ضربة مباشرة لهذه الإمبراطورية، لكنه كان أيضاً فرصة للحكومات الأوروبية لتبرير قرارات كانت قيد التحضير منذ سنوات.
من الاغتيال إلى الحرب: الأسابيع التي غيرت العالم
بعد الاغتيال، لم تعلن النمسا-المجر الحرب فوراً، بل بدأت بسلسلة من التهديدات لصربيا، متهمة حكومتها بدعم الإرهابيين القوميين الذين نفذوا العملية. بدعم ألماني، قدمت في يوليو 1914 إنذاراً شديد اللهجة لصربيا، يطالبها بالخضوع التام للمطالب النمساوية، وإلا فإن الحرب ستكون الخيار الوحيد. رغم أن صربيا وافقت على معظم الشروط، إلا أن النمسا-المجر اعتبرت ردها غير كافٍ، وأعلنت الحرب في 28 يوليو.
هنا بدأت كرة النار في التدحرج. روسيا، التي اعتبرت نفسها حامية للشعوب السلافية، أعلنت التعبئة العسكرية دعماً لصربيا. ردت ألمانيا بإعلان الحرب على روسيا، ثم على فرنسا بعد ذلك بأيام. عندما اجتاحت القوات الألمانية بلجيكا في طريقها إلى فرنسا، دخلت بريطانيا الحرب لحماية حياد بلجيكا، وهكذا، في غضون أسابيع قليلة، تحول اغتيال فرديناند من حدث محلي إلى حرب عالمية شاركت فيها معظم القوى الكبرى.
هل كان الاغتيال السبب الحقيقي أم مجرد ذريعة؟
رغم أن اغتيال الأرشيدوق كان الشرارة المباشرة للحرب، إلا أن هناك جدلاً واسعاً حول ما إذا كانت الحرب ستندلع حتى لو لم تقع هذه الجريمة. كان هناك العديد من العوامل التي جعلت الصراع الأوروبي وشيكاً، منها سباق التسلح، والمنافسة الإمبريالية، والتحالفات العسكرية التي جعلت أي صراع صغير يتحول إلى مواجهة كبرى.
من وجهة نظر بعض المؤرخين، كانت ألمانيا تبحث عن فرصة لاختبار قوتها العسكرية، وكانت ترى في الحرب وسيلة لكسر الحصار الدبلوماسي الذي فرضته بريطانيا وفرنسا وروسيا عليها. في المقابل، كانت بريطانيا وفرنسا تخشيان من تصاعد القوة الألمانية، وكانتا تستعدان بالفعل لمواجهة محتملة معها.
لم تكن الحرب العالمية الأولى مجرد حرب بين الجيوش، بل كانت حرباً غيرت كل شيء في العالم، من الحدود السياسية إلى الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية. انتهت الحرب بسقوط أربع إمبراطوريات كبرى: الألمانية، والعثمانية، والنمساوية-المجرية، والروسية، وظهور دول جديدة على أنقاضها. كما أدت المعاهدات التي أنهت الحرب، خاصة معاهدة فرساي، إلى خلق مشاكل جديدة ساهمت لاحقاً في اندلاع الحرب العالمية الثانية.
يبقى اغتيال فرانز فرديناند حدثاً مفصلياً في التاريخ، لكنه لم يكن السبب الوحيد للحرب العالمية الأولى، بل كان مجرد الشرارة التي أشعلت فتيل صراع كان ينتظر لحظة الانفجار. السؤال الذي يظل مطروحاً هو: هل كان بالإمكان تجنب هذه الحرب لو تعاملت القوى الكبرى مع الأزمة بحكمة أكبر، أم أن الصراع كان حتمياً نتيجة التراكمات السياسية والعسكرية لعقود طويلة؟