لماذا يُعتبر العمل المنزلي ورعاية الأطفال وكبار السن مسؤولية “طبيعية” للنساء، في حين يُنظر إلى العمل المدفوع الأجر على أنه المقياس الوحيد للإنتاجية الاقتصادية؟ هل يمكن الحديث عن مساواة حقيقية بين الجنسين بينما لا يزال الاقتصاد غير معترف بعمل النساء غير المدفوع؟ وكيف يمكن أن تؤدي إعادة هيكلة اقتصاد الرعاية إلى تحسين أوضاع المرأة وتمكينها اقتصاديًا؟
في كل بيت، تقوم النساء بأعمال يومية تشمل الطهي، والتنظيف، ورعاية الأطفال، والعناية بكبار السن، والتخطيط لحياة الأسرة، لكن هذه المهام، رغم أهميتها البالغة، لا يتم احتسابها ضمن الناتج المحلي الإجمالي، ولا يُنظر إليها على أنها “عمل حقيقي”. تقرير صادر عن منظمة العمل الدولية عام 2023 يشير إلى أن النساء في العالم العربي يقضين في المتوسط بين أربع إلى ست ساعات يوميًا في أعمال الرعاية غير المدفوعة، مقارنة بساعتين فقط للرجال. هذا يعني أن ملايين النساء يعملن يوميًا دون أجر، مما يُبقيهن في وضع اقتصادي هش ويجعلهن أكثر عرضة للفقر في حال فقدان الدعم الأسري.
الخبيرة الاقتصادية اللبنانية ريما الحاج، المتخصصة في قضايا العمل والجندر، ترى أن الاقتصاد التقليدي بُني على افتراض أن العمل المنتج هو فقط ذلك الذي يُحقق عائدًا ماليًا، في حين أن العمل المنزلي، رغم أنه أساسي لاستمرار الحياة اليومية، يتم تجاهله تمامًا. إذا توقف هذا العمل فجأة، سينهار الاقتصاد بأكمله، لأن القوى العاملة لن تتمكن من أداء مهامها دون دعم النساء داخل البيوت.
كيف يكرّس القانون التمييز ضد النساء في سوق العمل؟
في معظم الدول العربية، لا تزال القوانين تنحاز لصالح الرجل عندما يتعلق الأمر بالتوظيف، حيث يتم التعامل مع النساء كعاملات “ثانويات”، مما يعني أنهن يحصلن على أجور أقل، ويواجهن صعوبة في الترقي الوظيفي، إضافة إلى معاناة مضاعفة عند محاولة التوفيق بين العمل والمسؤوليات الأسرية. في مصر، تُشير الإحصائيات إلى أن نسبة النساء في القوى العاملة لا تتجاوز 18%، وهو من أدنى المعدلات عالميًا. في السعودية، رغم التقدم الذي تحقق في تمكين النساء اقتصاديًا، إلا أن النساء لا يزلن يواجهن تحديات كبيرة في الوصول إلى المناصب القيادية. في المغرب، تُظهر الأرقام أن النساء يعملن لساعات أطول من الرجال عند احتساب العمل المنزلي، لكنهن يكسبن أقل بنسبة 25% في المتوسط.
تقول المحامية التونسية ليلى بن عاشور، المختصة في قضايا العمل، إن القوانين الحالية لا تُنصف النساء، لأنها لا تعترف أصلًا بعمل الرعاية كجزء من النشاط الاقتصادي. النساء يُجبرن على العمل في المنزل دون مقابل، وفي الوقت نفسه يُواجهن عقبات قانونية واقتصادية عند محاولتهن دخول سوق العمل. هذا يخلق دائرة مفرغة من التبعية الاقتصادية، حيث تظل المرأة غير قادرة على تحقيق استقلال مالي حقيقي.
في معظم المجتمعات العربية، تتحمل النساء مسؤولية رعاية الأسرة دون أي تعويض مالي أو دعم حكومي، مما يجعلهن أكثر عرضة للفقر في حال الطلاق أو وفاة الزوج. في بعض الدول، مثل فرنسا وكندا، تم إدخال برامج لدعم رعاية الأطفال وكبار السن، مما سمح للنساء بدخول سوق العمل دون أن يتعرضن لضغط مضاعف بين العمل المنزلي والعمل المدفوع. في المقابل، في معظم الدول العربية، لا تزال النساء مضطرات للاختيار بين الحياة المهنية والمسؤوليات الأسرية، لأن الدولة لا تقدم أي دعم حقيقي لرعاية الأطفال أو العمل المنزلي.
تقول الباحثة الأردنية نسرين عوض، المتخصصة في قضايا الاقتصاد الاجتماعي، إن اقتصاد الرعاية ليس مجرد قضية نسوية، بل هو قضية تنموية. عندما تتحمل النساء وحدهن عبء الرعاية، يتراجع الاقتصاد لأن نصف السكان يُجبرون على البقاء خارج سوق العمل. الحل يكمن في إعادة توزيع الأدوار، وضمان أن يكون العمل غير المدفوع معترفًا به ومكافأ عليه.
هل يمكن إصلاح اقتصاد الرعاية؟
إعادة الاعتبار لعمل الرعاية في المجتمعات العربية يحتاج إلى إصلاحات جذرية، تبدأ بتغيير القوانين، ولا تنتهي عند تغيير العقليات الاجتماعية. بعض الدول بدأت في قياس مساهمة النساء في الاقتصاد من خلال احتساب ساعات العمل المنزلي في الناتج المحلي الإجمالي. هذه الخطوة قد تفتح الباب أمام سياسات جديدة تعترف بقيمة هذا العمل. إصلاح قوانين العمل أيضًا يُعدّ جزءًا أساسيًا من الحل، حيث يجب توفير إجازات أمومة مدفوعة الأجر، وإلزام الشركات بتقديم بيئة عمل مرنة للنساء، خاصة في مرحلة ما بعد الولادة.
إنشاء صناديق دعم لربات البيوت هو نموذج آخر يمكن أن يحقق نتائج ملموسة، حيث يمكن تقديم منح مالية للنساء غير العاملات لضمان استقلالهن الاقتصادي، وحمايتهن من الوقوع في دوائر الفقر في حال الطلاق أو وفاة الزوج. تحفيز الرجال على المشاركة في أعمال الرعاية يُعدّ أيضًا خطوة ضرورية، حيث يجب تغيير الصورة النمطية التي تجعل العمل المنزلي “وظيفة نسائية”. إدخال برامج توعوية حول أهمية توزيع الأدوار داخل الأسرة، وإلزام الشركات بمنح إجازات أبوة مدفوعة، كما يحدث في بعض الدول الأوروبية، قد يكون جزءًا من الحل لتخفيف الضغط عن النساء وضمان بيئة عمل أكثر عدالة.
رغم أن اقتصاد الرعاية هو أحد الدعائم الأساسية لاستمرار المجتمعات، إلا أنه لا يزال يُنظر إليه في العالم العربي على أنه “واجب نسائي”، وليس كعمل يجب أن يُعترف به ويُكافأ عليه. إصلاح هذه المنظومة لا يتطلب فقط تغيير القوانين، بل يحتاج إلى تغيير جذري في العقلية المجتمعية التي تعتبر أن عمل النساء داخل البيوت “غير منتج”.
السؤال الذي يظل مطروحًا: هل يمكن للدول العربية أن تعيد النظر في اقتصاد الرعاية، وتحقق مساواة حقيقية بين الجنسين، أم أن النساء سيبقين عالقات في الدوامة نفسها، يعملن بلا مقابل، بينما يُنظر إليهن على أنهن “غير عاملات”؟