في ظل تصاعد المخاوف البيئية، يبدو العالم منقسماً بين رؤيتين متناقضتين: الأولى تسعى إلى تحقيق اقتصاد بلا كربون عبر التحول نحو الطاقة النظيفة، والثانية ما تزال غارقة في حسابات المصالح الاقتصادية التقليدية التي تعتمد على النفط والغاز والفحم. وبين هذه الرؤى، تبرز المنطقة العربية، التي تعد واحدة من أكبر المنتجين والمستهلكين للوقود الأحفوري، أمام تحدٍّ غير مسبوق: هل يمكن أن تتحول اقتصاداتها إلى نماذج مستدامة دون أن تدفع ثمناً اقتصادياً باهظاً؟
في السنوات الأخيرة، تعهدت العديد من الدول، بما فيها الولايات المتحدة والصين ودول الاتحاد الأوروبي، بالوصول إلى الحياد الكربوني خلال العقود القادمة، لكن تقريراً حديثاً صادر عن “وكالة الطاقة الدولية” عام 2023 يشير إلى أن الواقع لا يزال بعيداً عن تحقيق هذه الأهداف. وفقاً للتقرير، لا تزال مصادر الطاقة المتجددة تمثل أقل من 20% من إجمالي استهلاك الطاقة العالمي، بينما يحتفظ النفط والفحم والغاز بحصة تتجاوز 75%. هذه الأرقام تؤكد أن التحول إلى اقتصاد بلا كربون ليس مجرد قرار سياسي، بل يتطلب تغييرات هيكلية في الأنظمة الاقتصادية والبنية التحتية الطاقية على مستوى العالم، وهو ما يجعل الأمر أكثر تعقيداً في دول تعتمد بشكل كامل تقريباً على الوقود الأحفوري مثل دول الخليج العربي.
الحياد الكربوني
على الرغم من تعهد السعودية بتحقيق الحياد الكربوني بحلول عام 2060، والإمارات بحلول 2050، إلا أن الاعتماد على صادرات النفط لا يزال يشكل العصب الأساسي لاقتصاديات هذه الدول. في الإمارات، يمثل قطاع النفط والغاز أكثر من 30% من الناتج المحلي الإجمالي، بينما في السعودية، ورغم الجهود المبذولة لتنويع الاقتصاد عبر رؤية 2030، لا يزال القطاع النفطي يهيمن على 40% من الناتج المحلي. التحول إلى اقتصاد منخفض الكربون في هذه الدول لا يعني فقط استبدال الوقود الأحفوري بمصادر طاقة متجددة، بل يتطلب إعادة هيكلة جذرية للاقتصاد نفسه، وهو ما يبدو بعيد المنال في الوقت الحالي.
تاريخياً، لعبت الصناعات الملوثة دوراً رئيسياً في بناء الاقتصاديات الكبرى، حيث لم يكن هناك اهتمام يُذكر بتأثير الانبعاثات على البيئة. الولايات المتحدة، التي تعتبر اليوم واحدة من الدول الرائدة في سياسات المناخ، كانت في العقود الماضية من بين أكبر الملوثين عالمياً، حيث تعتمد صناعاتها الثقيلة على الفحم والغاز بشكل كبير. تقرير صادر عن “مركز أبحاث التغير المناخي” في جامعة ستانفورد عام 2022 يشير إلى أن الولايات المتحدة مسؤولة عن أكثر من 25% من إجمالي الانبعاثات الكربونية التي شهدها العالم منذ الثورة الصناعية، ما يعني أن تحولها الحالي نحو الطاقة النظيفة لا يمكن أن يتم دون معالجة الإرث التاريخي لسياساتها البيئية.
لكن على الجانب الآخر، لا يمكن إنكار أن هناك دولاً قطعت أشواطاً حقيقية نحو تقليل انبعاثاتها الكربونية. في أوروبا، سجلت ألمانيا تقدماً ملحوظاً في خفض الاعتماد على الفحم، حيث انخفضت مساهمة الفحم في إنتاج الكهرباء من 50% عام 2000 إلى أقل من 20% عام 2023. في الوقت نفسه، استثمرت الدنمارك بشكل مكثف في طاقة الرياح، لتصبح واحدة من الدول القليلة التي تعتمد بشكل أساسي على الطاقة النظيفة لتغطية احتياجاتها الكهربائية. في المقابل، لا تزال الدول العربية متأخرة عن هذا التوجه، إذ تشير بيانات البنك الدولي إلى أن الاستثمارات العربية في الطاقة المتجددة لا تتجاوز 3% من إجمالي الاستثمارات في قطاع الطاقة، وهو معدل أقل بكثير مما هو مطلوب لتحقيق تحول حقيقي نحو اقتصاد أخضر.
ضغوط متزايدة
من جهة أخرى، تتزايد الضغوط الدولية على الدول المنتجة للنفط لتقليل إنتاجها من الوقود الأحفوري، وهو ما يضع دول الخليج أمام معادلة صعبة. في قمة المناخ COP28 التي استضافتها الإمارات عام 2023، كانت هناك دعوات صريحة لخفض دعم الوقود الأحفوري واستبداله بسياسات تدعم الطاقة المتجددة. لكن هذه الطروحات تواجه مقاومة شديدة من الدول المنتجة، التي تعتبر أن التخلي عن النفط في الوقت الراهن قد يؤدي إلى زعزعة اقتصاداتها وتعطيل خطط التنمية لديها. في هذا السياق، يشير الدكتور ماهر عبد الحميد، أستاذ الاقتصاد البيئي بجامعة القاهرة، إلى أن “الدول العربية تواجه تحدياً معقداً، حيث لا يمكنها أن تتجاهل التزاماتها المناخية، لكنها في الوقت نفسه لا تستطيع التخلي فجأة عن مصادر دخلها الأساسية دون توفير بدائل اقتصادية واقعية”. ويرى أن الحل يكمن في تبني سياسات تدريجية تدعم التحول التدريجي نحو الطاقة النظيفة دون الإضرار بالاقتصادات القائمة.
لكن التحول إلى اقتصاد بلا كربون ليس مجرد قرار سياسي أو اقتصادي، بل هو أيضاً قضية تمويل. وفقاً لتقديرات البنك الدولي، يحتاج العالم إلى استثمارات تتجاوز 4 تريليونات دولار سنوياً في مشاريع الطاقة المتجددة لتحقيق أهداف الحياد الكربوني بحلول 2050. في الدول النامية، يصبح الأمر أكثر تعقيداً، حيث تفتقر إلى الموارد اللازمة للاستثمار في هذه المشروعات، بينما تواجه ضغوطاً دولية متزايدة لتقليل انبعاثاتها. في إفريقيا، على سبيل المثال، يشير تقرير صادر عن الأمم المتحدة عام 2022 إلى أن القارة تحتاج إلى استثمارات بقيمة 2.5 تريليون دولار حتى تتمكن من التحول إلى الطاقة النظيفة، لكن حتى الآن، لم يتم تأمين سوى 10% من هذا التمويل.
التحدي لا يقتصر على التمويل فقط، بل يشمل أيضاً البنية التحتية المطلوبة لدعم التحول نحو الطاقة النظيفة. في الهند والصين، رغم الاستثمارات الضخمة في الطاقة الشمسية والرياح، لا تزال شبكة الكهرباء غير قادرة على استيعاب التغيرات الكبيرة في مصادر الطاقة. في العديد من الدول العربية، لا تزال شبكات الكهرباء تعتمد على أنظمة قديمة مصممة للعمل مع الوقود الأحفوري، ما يجعل من الصعب دمج مصادر الطاقة المتجددة في النظام الكهربائي القائم.
في ظل هذه التحديات، يبقى السؤال مطروحاً: هل يمكن للعالم، وللدول العربية تحديداً، تحقيق اقتصاد بلا كربون خلال العقود القادمة؟ يبدو أن الإجابة ليست بسيطة، فبينما تسعى بعض الدول إلى التحول تدريجياً نحو الطاقة المتجددة، لا يزال الواقع الاقتصادي والسياسي يفرض قيوداً تجعل من الصعب تحقيق هذا الهدف بالسرعة المطلوبة. في النهاية، قد لا يكون السؤال الحقيقي هو ما إذا كان العالم مستعداً لهذا الانتقال، بل ما إذا كان لديه الإرادة والقدرة على تجاوز العقبات التي تعترض طريقه نحو مستقبل أكثر استدامة.