Spread the love

كيف يمكن تفسير استمرار الفجوة في الأجور بين الرجال والنساء رغم التطورات القانونية والدعوات المتكررة للمساواة في سوق العمل؟ هل المشكلة في السياسات الاقتصادية، أم أن الثقافة الاجتماعية لا تزال تحكم اقتصاديات العمل؟ ولماذا تعمل النساء ساعات أطول في بعض القطاعات ومع ذلك يحصلن على أجور أقل؟

رغم أن مشاركة المرأة في سوق العمل شهدت تحسنًا في بعض الدول العربية، إلا أن الفجوة في الأجور لا تزال قائمة بشكل كبير. وفقًا لتقرير صادر عن منظمة العمل الدولية لعام 2023، فإن النساء في العالم العربي يكسبن، في المتوسط، أقل بنسبة تتراوح بين 20% إلى 40% من نظرائهن الرجال، حتى عندما يكون لديهن نفس المؤهلات ونفس سنوات الخبرة.

تشير الأرقام أيضًا إلى أن النساء يعملن بشكل أكبر في القطاعات ذات الأجور المنخفضة، مثل التعليم والصحة والخدمات، بينما يهيمن الرجال على القطاعات الأعلى دخلًا مثل التكنولوجيا والتمويل والهندسة. هذا التفاوت يساهم في استمرار الفجوة الاقتصادية، حيث تصبح النساء أقل قدرة على تحقيق الاستقلال المالي مقارنة بالرجال.

تقول الباحثة الاقتصادية اللبنانية ريما فخري، المتخصصة في دراسات سوق العمل، إن “الفجوة في الأجور ليست مجرد خلل في السياسات، بل هي انعكاس لثقافة ترى أن الرجل هو المعيل الرئيسي للأسرة، في حين يتم التعامل مع راتب المرأة كدخل ثانوي، حتى لو كانت تعمل بنفس الكفاءة والإنتاجية”.

التمييز في التوظيف: النساء يُستبعدن من المناصب القيادية

أحد أكبر العوامل التي تُكرّس الفجوة في الأجور هو قلة تمثيل النساء في المناصب القيادية والإدارية. في العديد من الدول العربية، نادرًا ما تصل النساء إلى مناصب صنع القرار داخل الشركات أو المؤسسات الحكومية، حيث يتم تفضيل الرجال على النساء، حتى في الحالات التي تكون فيها المرأة أكثر كفاءة.

وفقًا لدراسة أجراها “المركز العربي للبحوث الاقتصادية” عام 2022، فإن نسبة النساء اللواتي يشغلن مناصب تنفيذية عليا في الشركات الكبرى في العالم العربي لا تتجاوز 7%، مقارنة بـ 25% في الدول الأوروبية و30% في أمريكا الشمالية.

الخبير الاقتصادي المصري علي زيدان يرى أن “الشركات في العالم العربي لا تزال تعمل وفق عقلية تقليدية ترى أن المناصب العليا تتطلب صفات ‘قيادية ذكورية’. لذلك نجد أن النساء يُدفعن نحو الوظائف الإدارية الداعمة، بينما تظل المناصب التنفيذية حكرًا على الرجال”.

إلى جانب التمييز في التوظيف، تعمل نسبة كبيرة من النساء العربيات في الاقتصاد غير الرسمي، حيث لا توجد حماية قانونية ولا حقوق واضحة للعاملات. النساء اللواتي يعملن في الحقول، أو في قطاع الخدمات المنزلية، أو في الصناعات اليدوية، غالبًا ما يتقاضين أجورًا أقل بكثير من الحد الأدنى القانوني للأجور، دون أي ضمانات اجتماعية أو تأمين صحي.

في المغرب، تشير الإحصائيات الرسمية إلى أن أكثر من 60% من النساء العاملات في القطاع الزراعي لا يحصلن على أي حقوق قانونية، حيث يتم تشغيلهن بأجور زهيدة، في ظل غياب رقابة حكومية فعالة. وفي مصر، تعاني النساء العاملات في قطاع المشروعات الصغيرة من انعدام أي ضمانات قانونية تحميهن من الاستغلال.

الناشطة الحقوقية التونسية هدى الشامري، المختصة في قضايا العمل، تؤكد أن “الاقتصاد غير الرسمي هو أكبر مصدر لاستغلال النساء في العالم العربي. الشركات الصغيرة وأرباب العمل يستغلون حاجة النساء إلى العمل، فيقومون بتشغيلهن دون عقود رسمية، مما يجعل من المستحيل على المرأة المطالبة بحقوقها أو تحسين أوضاعها الاقتصادية”.

من العوامل التي تعزز الفجوة في الأجور أيضًا هو ما يُعرف بـ “عقوبة الأمومة”، حيث تُصبح النساء أقل قدرة على المنافسة في سوق العمل بمجرد أن يصبحن أمهات. العديد من الشركات تفضّل توظيف الرجال أو النساء غير المتزوجات، خوفًا من أن تضطر الموظفة إلى أخذ إجازات أمومة، أو أن تنخفض إنتاجيتها بسبب مسؤولياتها العائلية.

تقرير صادر عن البنك الدولي عام 2023 كشف أن النساء اللواتي لديهن أطفال يحصلن على رواتب أقل بنسبة 15% إلى 30% مقارنة بالنساء غير المتزوجات، حتى عندما يكنّ في نفس الوظائف ونفس مستويات التعليم والخبرة.

تشير الباحثة الاجتماعية الأردنية نسرين العطار إلى أن “المرأة تدفع ثمن الإنجاب في سوق العمل، بينما الرجل يُكافأ على كونه ‘رب الأسرة’. هذه العقلية تجعل النساء أقل قدرة على التفاوض على رواتبهن، وأقل حظًا في الترقيات مقارنة بالرجال”.

هل يمكن تقليص فجوة الأجور؟ بين الحلول النظرية والتحديات الواقعية

محاولة تقليص الفجوة في الأجور تتطلب إصلاحات عميقة على عدة مستويات. سنّ قوانين تُجبر الشركات على المساواة في الأجور بين الجنسين هو خطوة أولى، لكن المشكلة لا تتوقف عند التشريعات فقط، بل تحتاج إلى تغيير ثقافي يعيد تعريف دور المرأة في سوق العمل.

التوعية المجتمعية تلعب دورًا محوريًا، حيث يجب أن يتم تغيير الصورة النمطية التي تعتبر المرأة “عاملة ثانوية” أو “جزءًا مكملًا” للقوى العاملة، وليس عنصرًا رئيسيًا فيها. كذلك، يجب توفير برامج دعم للأمهات العاملات، مثل إجازات أمومة مدفوعة الأجر وحضانات في أماكن العمل، حتى لا تصبح الأمومة عائقًا أمام التقدم المهني للمرأة.

إصلاح نظام التوظيف داخل الشركات هو أيضًا عامل أساسي. يجب وضع آليات تضمن أن يتم تقييم الموظفين على أساس الكفاءة وليس على أساس الجنس، بالإضافة إلى تعزيز الشفافية في سياسات الأجور، بحيث تتمكن النساء من معرفة ما إذا كنّ يحصلن على أجر عادل مقارنة بزملائهن الرجال.

لا تزال المساواة في الأجور هدفًا بعيد المنال في العالم العربي، لكن التغيير ليس مستحيلًا. العديد من الدول بدأت تتخذ خطوات إيجابية، مثل فرض قوانين لمنع التمييز في الأجور، أو تقديم حوافز للشركات التي تلتزم بالمساواة الجندرية.

يقول الخبير الاقتصادي المغربي حسن الإدريسي إن “تحقيق المساواة الاقتصادية بين الجنسين ليس مجرد قضية حقوقية، بل هو ضرورة اقتصادية. الاقتصادات التي تستثمر في مشاركة النساء بشكل عادل تحقق معدلات نمو أعلى، وتستفيد من كامل طاقتها الإنتاجية”.

لكن السؤال الذي يظل مطروحًا: هل تستطيع المجتمعات العربية تجاوز القيود الثقافية والاجتماعية التي تجعل الفجوة في الأجور مستمرة، أم أن النساء سيبقين في دائرة العمل الأكثر، والأجر الأقل؟

error: Content is protected !!