الخميس. أكتوبر 17th, 2024

الأسرة التقليدية.. هل يمكن استبدال النظام الأبوي بنظام أكثر مساواة؟

لطالما كانت الأسرة التقليدية محطّ اهتمام الباحثين والمفكرين في جميع أنحاء العالم، حيث تعكس الهيكلية الأبوية في كثير من الأحيان علاقات السلطة والتراتبية داخل المجتمع الأوسع. الأسرة التقليدية، التي تعتمد على سيطرة الرجل ودوره المركزي في اتخاذ القرارات، ظلت النموذج السائد لقرون طويلة في العديد من المجتمعات، وخاصة في العالم العربي. ولكن مع تطور الحركات النسوية وزيادة الوعي بأهمية المساواة بين الجنسين، بات هناك تساؤل جوهري: هل يمكن استبدال هذا النظام بنظام أكثر مساواة داخل الأسرة؟

النظام الأبوي.. جذور تاريخية وتحديات التغيير

النظام الأبوي ليس مجرد بنية اجتماعية قديمة، بل هو نتاج ظروف تاريخية واقتصادية وسياسية. في العديد من المجتمعات التقليدية، كان الرجل هو العائل الرئيسي للأسرة، ما منحه سلطة اتخاذ القرارات الحاسمة بشأن حياة جميع أفراد الأسرة. هذا النموذج متأصل في الهياكل الاجتماعية التي ترتبط بالقيم الثقافية والدينية، مما يجعل تغييره أمرًا معقدًا.

إحدى النقاط الأساسية التي تطرحها الحركات النسوية هي أن النظام الأبوي يقيد دور المرأة ويحدّ من قدرتها على اتخاذ القرارات. تؤكد الباحثة النسوية سيمون دي بوفوار في كتابها “الجنس الآخر” أن المرأة في النظام الأبوي تُعامل كموضوع تابع للرجل، مما يعزز من دونيتها ويعيق تحقيقها لذاتها.

إضافة إلى ذلك، تلعب الأدوار التقليدية المبنية على النوع الاجتماعي دورًا رئيسيًا في تكريس هذا النظام. يتم توقع أدوار محددة لكل من الرجل والمرأة داخل الأسرة: الرجل هو العائل، والمرأة هي المسؤولة عن الرعاية المنزلية وتربية الأطفال. هذه الأدوار تُعزز من عدم المساواة داخل الأسرة وتجعل التغيير صعبًا.

الدكتورة هند الرفاعي، أستاذة علم الاجتماع والنوع الاجتماعي، تعتقد خلال حديثها لـ”شُبّاك” بأن استبدال النظام الأبوي بنظام أكثر مساواة يتطلب تغييرًا هيكليًا على المستوى الاجتماعي والثقافي، وليس فقط تعديلات قانونية. تقول الرفاعي: “النظام الأبوي يعتمد على تراتبية متجذرة في العلاقات الأسرية التي تمنح السلطة للرجل على حساب المرأة. هذه السلطة ليست ناتجة فقط عن الهيمنة الاقتصادية، بل هي أيضًا نتيجة التوقعات الاجتماعية المبنية على القيم الثقافية والدينية التي ترى في الرجل حاميًا وراعٍ للأسرة.”

تشير الرفاعي إلى أن تغيير هذه البنية يستلزم إعادة تعريف الأدوار الاجتماعية داخل الأسرة وخارجها. “من المهم أن ندرك أن تحقيق المساواة داخل الأسرة لا يتعلق فقط بتوزيع الأدوار بين الرجل والمرأة، بل يشمل أيضًا تفكيك القيم التقليدية التي تعزز من فكرة أن المرأة هي المسؤولة الأساسية عن الرعاية المنزلية. هناك حاجة لتعليم الأجيال الجديدة على مبدأ الشراكة المتساوية بين الجنسين، حيث يجب أن يتحمل كلا الطرفين المسؤوليات المنزلية بالتساوي، سواء كانت مادية أو عاطفية.”

وتختم حديثها بالقول أن “العديد من المجتمعات قد اتخذت خطوات نحو تحقيق هذا الهدف، ولكن في العالم العربي لا يزال هناك مقاومة كبيرة نتيجة للقيم الثقافية والدينية المتأصلة. هذا لا يعني أن التغيير مستحيل، ولكنه يتطلب حملات توعية على مستوى المجتمع، بالإضافة إلى تعزيز تمكين المرأة اقتصاديًا، كي تتمكن من تحقيق استقلالها وبالتالي إعادة التفاوض حول الأدوار الأسرية.”

رغم أن النظام الأبوي لا يزال قويًا في العديد من المجتمعات، فإن هناك تحولات اجتماعية مهمة تدفع نحو المساواة. الحركات النسوية في العقود الأخيرة دفعت نحو تغيير هذه الهيكلية من خلال الدعوة إلى تمكين المرأة وإعادة تعريف الأدوار داخل الأسرة.

أحد العوامل التي ساهمت في تسريع هذه التغيرات هو التحولات الاقتصادية. دخول المرأة إلى سوق العمل بمعدلات متزايدة أدى إلى تغيير الأدوار التقليدية داخل الأسرة. في بعض الأسر، أصبح الرجل والمرأة يتشاركان المسؤوليات المالية، ما أدى إلى نقاشات حول تقسيم أكثر عدالة للمسؤوليات المنزلية.

إضافة إلى ذلك، فإن التحولات القانونية والاجتماعية التي حدثت في العديد من الدول، مثل إصلاحات قانون الأسرة في تونس والمغرب، أتاحت للمرأة المزيد من الحقوق في ما يتعلق بالزواج والطلاق وحضانة الأطفال. هذه التحولات لم تقتصر على الإصلاحات القانونية فقط، بل شهدت أيضًا تحولات في التوقعات الاجتماعية بشأن الأدوار التقليدية.

رغم التقدم المحرز في بعض المجتمعات، هناك العديد من التحديات التي تقف أمام تحقيق المساواة داخل الأسرة. أحد هذه التحديات هو التراث الثقافي والديني الذي يُعزز من النظام الأبوي. في العديد من المجتمعات، تُعتبر السلطة الذكورية جزءًا من التقاليد التي يجب احترامها، مما يجعل أي محاولة لتغيير هذا النظام تواجه مقاومة اجتماعية كبيرة.

التحدي الآخر يتمثل في الوعي المجتمعي. المساواة تتطلب تغييرات في السلوكيات والممارسات الاجتماعية، ولكن هذه التغييرات لا تأتي بسهولة. التعليم يلعب دورًا أساسيًا في تعزيز هذا الوعي، ولكن حتى مع زيادة التعليم، يبقى البعض متمسكين بالتقاليد التي تعزز من الهيكلية الأبوية.

من ناحية أخرى، هناك حاجة لتوفير الدعم المؤسسي والسياسي لتحقيق المساواة. إجازة الأبوة، على سبيل المثال، هي أحد الإجراءات التي تساعد على توزيع مسؤوليات رعاية الأطفال بشكل أكثر عدالة بين الجنسين. توفير دعم أكبر للمرأة العاملة من خلال توفير بيئة عمل مرنة ورعاية أطفال ميسرة، يمكن أن يسهم في تعزيز المساواة.

هل يمكن استبدال النظام الأبوي بنظام أكثر مساواة؟

الإجابة على هذا السؤال ليست بسيطة. في بعض المجتمعات، قد يكون من الصعب استبدال النظام الأبوي بشكل كامل بسبب التشابكات الثقافية والدينية التي تكرس هذه الهياكل. ولكن هذا لا يعني أن التغيير مستحيل. السويد على سبيل المثال، تُعتبر واحدة من الدول التي نجحت في تطبيق نموذج أكثر مساواة داخل الأسرة، من خلال توفير سياسات تدعم تقاسم الأدوار المنزلية ومسؤوليات رعاية الأطفال بين الرجل والمرأة.

في العالم العربي، يتطلب تحقيق المساواة إعادة التفكير في الأسس الثقافية والاجتماعية التي تُشكل النظام الأبوي. هذا يتطلب إصلاحات قانونية شاملة، وتعليمًا يعزز من فكرة المساواة بين الجنسين، ودعمًا اقتصاديًا للمرأة كي تتمكن من تحقيق استقلالها المادي.

عمر الخطيب، الباحث في قضايا النوع الاجتماعي والأسرة، يرى خلال حديثه لـ”شّبّاك” أن أحد التحديات الرئيسية في استبدال النظام الأبوي هو أن الأسرة في النظام الأبوي تُعتبر مؤسسة لحفظ التقاليد الاجتماعية، وليس فقط نظامًا لتوزيع المهام. ويقول: “النظام الأبوي لا يُبنى فقط على الهيمنة الذكورية بل هو آلية اجتماعية تهدف إلى ضمان استمرارية القيم والتقاليد التي توارثتها المجتمعات على مدى الأجيال. الرجل في هذه الأنظمة يُنظر إليه على أنه حامي الأسرة وراعيها، والمسؤول الرئيسي عن الحفاظ على هذه التقاليد، سواء كانت مرتبطة بالدين، أو الثقافة، أو القيم الأخلاقية.”

الخطيب يؤكد أن تغيير هذه الهياكل يتطلب جهودًا تتجاوز الإصلاحات القانونية. “القوانين التي تدعم المساواة مهمة بلا شك، ولكنها ليست كافية. يجب أن تتغير الثقافة العامة التي تعزز من هذه القيم التقليدية. نرى في العديد من المجتمعات أن القانون يتيح للمرأة حق العمل والمشاركة في اتخاذ القرارات، ولكن على مستوى الأسرة، يظل الرجل هو صاحب القرار الأخير. هناك مقاومة ثقافية لتغيير الأدوار بين الرجل والمرأة.”

ويضيف: “التحدي الآخر هو أن الأفراد، وخاصة النساء، بحاجة إلى دعم اقتصادي واجتماعي لتطبيق المساواة داخل الأسرة. يجب توفير بيئة عمل مرنة تتيح للنساء والرجال التوفيق بين العمل والحياة الأسرية بشكل متساوٍ. يجب أن يكون هناك أيضًا دعم سياسي ومؤسسي من خلال برامج تربوية وثقافية تعزز من مبدأ الشراكة بين الجنسين، وليس توزيعًا للأدوار على أساس النوع الاجتماعي.”

النظام الأبوي متجذر بعمق في العديد من المجتمعات، لكنه ليس غير قابل للتغيير. التحولات الاقتصادية، القانونية، والاجتماعية تدفع نحو نظام أسري أكثر مساواة، ولكن الطريق لا يزال طويلًا أمام تحقيق هذا الهدف. تحقيق المساواة داخل الأسرة ليس مجرد مسألة حقوق فردية، بل هو جزء من بناء مجتمعات أكثر عدالة وتوازنًا، حيث يتم احترام حقوق الجميع بغض النظر عن جنسهم.

Related Post