Spread the love

في المجتمعات العربية المحافظة، تمثل الأم العازبة واحدة من أكثر الفئات المهمشة والمستضعفة، حيث تواجه تمييزًا مزدوجًا: الأول ينبع من البنية الاجتماعية التي لا تزال ترى في المرأة كائنًا تابعًا للرجل، والثاني يأتي من القوانين التي تضع عراقيل قانونية أمام حصولها على حقوقها الأساسية. في ظل هذا الواقع، تجد الأمهات العازبات أنفسهن عالقات بين العزلة الاجتماعية، وغياب الدعم الاقتصادي، والعراقيل البيروقراطية التي تحرمهن من حقوقهن القانونية. لكن كيف يمكن لهذه الفئة أن تحظى بمكانة عادلة في مجتمع لا يعترف باستقلاليتهن؟

قوانين تمييزية تعزز الأزمة

على الرغم من أن الأم العازبة ليست ظاهرة جديدة في العالم العربي، إلا أن القوانين لا تزال تتعامل معها وكأنها استثناء غير مرغوب فيه. ففي العديد من الدول، تُمنع الأمهات غير المتزوجات من تسجيل أطفالهن بسهولة، أو يواجهن صعوبات قانونية تتعلق بالحضانة، والنفقة، وإثبات النسب، كما هو الحال في المغرب والأردن، حيث لا تستطيع الأم تسجيل طفلها باسمها دون وجود اعتراف رسمي من الأب.

الباحثة المصرية ندى الأسواني، المتخصصة في القانون الأسري، توضح أن “القوانين العربية لا تزال تنطلق من فرضية أن المرأة لا يمكن أن تكون مستقلة عن الرجل، وهو ما يجعل الأمهات العازبات في مأزق قانوني دائم. ففي بعض الدول، لا يمكن للأم العازبة استخراج أوراق ثبوتية لطفلها بسهولة، مما يعرضه لخطر الحرمان من التعليم والرعاية الصحية، بل وقد يصبح عديم الجنسية إذا لم يتم تسجيله وفق الأطر القانونية.”

وتضيف أن “غياب الاعتراف القانوني بحقوق الأمهات العازبات يعكس التناقض بين الخطاب الديني والاجتماعي من جهة، والقوانين الدولية لحقوق الإنسان من جهة أخرى، حيث تُعتبر المرأة كائنًا تابعًا حتى لو كانت تتحمل مسؤولية طفل بمفردها.”

بالإضافة إلى الأزمات القانونية، تواجه الأمهات العازبات معركة يومية ضد الوصم الاجتماعي. ففي المجتمعات المحافظة، لا يزال يُنظر إلى المرأة التي تربي طفلًا وحدها وكأنها ارتكبت “خطأً لا يُغتفر”، بغض النظر عن ظروفها. بعض النساء يُجبرن على العيش في عزلة، أو يتعرضن للطرد من منازلهن العائلية، كما هو الحال في العراق ولبنان، حيث تضطر بعض الأمهات العازبات للعيش في دور إيواء سرية لتجنب العنف الأسري.

يؤكد الباحث المغربي جمال الإدريسي، المتخصص في علم الاجتماع الأسري، أن “المجتمع العربي لا يزال يعاقب النساء أكثر مما يعاقب الرجال في القضايا المتعلقة بالعلاقات خارج إطار الزواج، وهو ما يجعل الأمهات العازبات يعشن في عزلة قسرية، دون أي دعم مجتمعي أو رسمي.”

ويضيف أن “الوصم الاجتماعي يؤدي إلى مزيد من التهميش الاقتصادي، حيث تجد الأم العازبة صعوبة في الحصول على وظيفة مستقرة، لأن الكثير من أصحاب العمل لا يرغبون في توظيف امرأة تتحمل مسؤولية طفل وحدها، خوفًا من أي التزامات قانونية أو اجتماعية.”

الاستقلال الاقتصادي: حلم صعب المنال؟

تُظهر الإحصاءات أن الأمهات العازبات يعانين من مستويات فقر أعلى من النساء المتزوجات، نظرًا لغياب الدعم المالي من الشريك، وصعوبة إيجاد فرص عمل تتناسب مع مسؤولياتهن العائلية. ففي مصر، تشير التقارير إلى أن نسبة كبيرة من الأمهات العازبات يعملن في وظائف غير رسمية مثل العمل المنزلي أو البيع في الأسواق الشعبية، مما يعرضهن للاستغلال وانعدام الحماية الاجتماعية.

وفي بعض الدول، مثل تونس والمغرب، بدأت بعض المنظمات الحقوقية في توفير برامج لدعم الأمهات العازبات، تشمل تدريبهن على مهارات مهنية تساعدهن على تحقيق الاستقلال الاقتصادي، لكن هذه المبادرات لا تزال محدودة مقارنة بحجم المشكلة.

تؤكد ندى الأسواني أن “غياب السياسات الداعمة للأمهات العازبات يزيد من معاناتهن، فبدلاً من توفير مساعدات مالية أو فرص عمل مناسبة، يتم تهميشهن واعتبارهن عبئًا على المجتمع. الدول التي توفر مساعدات للأمهات العازبات، مثل بعض الدول الأوروبية، أثبتت أن دعم هذه الفئة يساهم في تقليل نسب الفقر وتعزيز دور المرأة في التنمية الاقتصادية.”

ما الحلول الممكنة؟

لا يمكن النظر إلى وضع الأمهات العازبات بمعزل عن الإصلاحات القانونية والاجتماعية التي تحتاجها المجتمعات العربية. أولى الخطوات نحو تحسين أوضاعهن تبدأ من:

تعديل القوانين لضمان حق الأم العازبة في تسجيل طفلها باسمهما دون الحاجة لاعتراف الأب.
توفير دعم اقتصادي واجتماعي يشمل برامج تشغيل، ورعاية أطفال بأسعار معقولة، ومساعدات مالية للفئات الأكثر تضررًا.
تغيير الخطاب المجتمعي الذي لا يزال يحمل الأم مسؤولية أكبر من الأب في العلاقات خارج الزواج، مما يخلق بيئة قمعية بدلاً من دعم النساء اللاتي يواجهن تحديات فردية كبيرة.

الأمهات العازبات في المجتمعات العربية يمثلن فئة تواجه تحديات متراكمة، من القوانين التمييزية إلى الوصم المجتمعي والضغوط الاقتصادية. وعلى الرغم من الجهود التي تبذلها بعض المنظمات الحقوقية لدعم هذه الفئة، إلا أن غياب الإرادة السياسية والإصلاحات القانونية يبقي أوضاعهن عالقة في دائرة التهميش.

ويبقى السؤال: هل ستشهد المجتمعات العربية يومًا تحولات تضمن للأمهات العازبات حقوقًا متساوية، أم أن هذه الفئة ستظل تعاني في الظل دون أي تغيير حقيقي؟

error: Content is protected !!