لماذا يُنظر إلى النساء اللواتي لا يرغبن في الإنجاب على أنهن ناقصات أو غير مكتملات الأنوثة؟ كيف تتحول الأمومة من خيار شخصي إلى التزام قسري تمليه العادات والتقاليد؟ لماذا لا يزال المجتمع العربي يرى في النساء مجرد أمهات مستقبليات، دون الاعتراف بحقهن في تحديد مسار حياتهن؟ وهل تستطيع النساء رفض الضغوط التي تُمارَس عليهن للإنجاب، أم أن الأمومة تظلّ قيدًا مفروضًا عليهن بقوة الأعراف والقوانين غير العادلة؟
في المجتمعات العربية، تُعتبر الأمومة جزءًا أساسيًا من هوية المرأة، حيث يُنظر إلى الإنجاب ليس فقط كخيار شخصي، بل كواجب اجتماعي يُفرض على النساء بمجرد الزواج. النساء اللواتي يرفضن الإنجاب أو يؤجلنه يتعرضن لضغوط مكثفة، سواء من الأسرة أو الزوج أو حتى المؤسسات الطبية التي تُعامل الإنجاب كأولوية قصوى، بغضّ النظر عن رغبة المرأة أو حالتها الصحية والنفسية.
تقرير صادر عن صندوق الأمم المتحدة للسكان عام 2023 أشار إلى أن 75% من النساء المتزوجات في العالم العربي يواجهن ضغوطًا مباشرة من أسرهن لإنجاب الأطفال، حتى في الحالات التي تكون فيها المرأة غير مستعدة جسديًا أو نفسيًا لذلك. في بعض الدول، يُعتبر العقم أو تأخر الإنجاب سببًا مشروعًا للطلاق، مما يزيد من الضغوط على النساء لإثبات “خصوبتهن” في أسرع وقت ممكن بعد الزواج.
الطبيبة السورية تهامة الكريم، المتخصصة في الصحة الإنجابية، ترى أن المشكلة ليست فقط في العادات، بل في غياب الدعم القانوني للنساء اللواتي يرغبن في تأجيل الإنجاب أو حتى رفضه تمامًا. العديد من النساء يُحرَمن من وسائل منع الحمل بسبب رفض أزواجهن أو أسرهن، وهناك حالات تُجبَر فيها النساء على الحمل حتى لو كان يشكل خطرًا على صحتهن، لأن المجتمع لا يعترف بحق المرأة في تقرير مصير جسدها.
القوانين والضغط المؤسسي: هل تمتلك المرأة حق رفض الإنجاب؟
رغم أن بعض الدول العربية أدخلت تحسينات على قوانين الأحوال الشخصية، إلا أن التشريعات لا تزال غير كافية لضمان حق النساء في اتخاذ قرارات الإنجاب بحرية. في العديد من الدول، لا تستطيع المرأة استخدام وسائل منع الحمل بدون موافقة الزوج، وفي بعض الحالات، يُمنع الإجهاض حتى في حالات الحمل الناتج عن الاغتصاب أو الحمل الذي يهدد حياة الأم.
في مصر، تُظهر الإحصائيات أن 40% من النساء اللواتي يردن تأجيل الإنجاب لا يستطعن الحصول على وسائل منع الحمل بسهولة، إما بسبب القيود المجتمعية أو بسبب رفض الأزواج لاستخدامها. في الجزائر، لا يزال الإجهاض غير قانوني إلا في حالات محدودة جدًا، مما يجبر النساء على اللجوء إلى عمليات سرية تعرض حياتهن للخطر. في الأردن، تُواجه النساء اللواتي يخترن عدم الإنجاب ضغوطًا قانونية واجتماعية، حيث يُنظر إلى رفض الإنجاب كسبب مشروع لطلب الطلاق أو الزواج الثاني.
المحامية اللبنانية سحر جبران، المختصة بحقوق المرأة، تؤكد أن غياب التشريعات التي تحمي حق النساء في التحكم بأجسادهن يعكس النظرة الذكورية التي ترى في جسد المرأة أداة للإنجاب فقط. حتى عندما تحاول بعض النساء استخدام القانون للدفاع عن حقهن في عدم الإنجاب، فإن القوانين القائمة تميل لصالح الرجل، مما يجعله هو المتحكم الرئيسي في القرارات الإنجابية داخل الأسرة.
إلى جانب الضغوط القانونية والمؤسسية، تواجه النساء أيضًا ضغوطًا نفسية واجتماعية تجعل رفض الإنجاب أمرًا شبه مستحيل. الفكرة السائدة بأن “المرأة لا تكتمل إلا بالأمومة” تجعل أي امرأة تختار عدم الإنجاب موضع انتقاد ولوم، حتى لو كان قرارها مبنيًا على أسباب صحية أو مهنية أو شخصية.
في بعض المجتمعات، يُنظر إلى المرأة غير المنجبة على أنها “ناقصة”، وقد تتعرض للسخرية أو العزل الاجتماعي. في بعض العائلات، قد تُجبر النساء على الإنجاب حتى ضد رغبتهن، لأن استمرار الزواج يكون مرهونًا بإنجاب الأطفال، خاصة الذكور. في السعودية، رغم الإصلاحات التي عززت دور المرأة في سوق العمل، لا تزال فكرة “التوازن بين العمل والأسرة” تُستخدم للضغط على النساء لإنجاب الأطفال، حتى لو كنّ يفضّلن التركيز على مسيرتهن المهنية.
تقول الباحثة التونسية سماح العزوني، المتخصصة في علم الاجتماع، إن المشكلة تكمن في أن النساء لا يُنظر إليهن كأفراد يملكن الحق في اتخاذ قراراتهن بحرية، بل يتم التعامل معهن على أنهن مسؤولات عن الحفاظ على استمرارية العائلة والمجتمع من خلال الإنجاب. من يرفضن هذه الأدوار يتعرضن للنبذ، مما يجعل العديد من النساء يخترن الامتثال للضغوط بدلاً من مواجهة العواقب الاجتماعية.
الضغط النفسي: بين الشعور بالذنب والإكراه العاطفي
إلى جانب الضغط الاجتماعي المباشر، تواجه النساء أيضًا ضغوطًا نفسية تُمارس عليهن بطرق غير مباشرة. بعض الأمهات يُمارسن ضغوطًا على بناتهن بعبارات مثل “لن تشعري بمعنى الحياة إلا عندما تصبحي أمًا”، أو “من سيعتني بك عندما تكبرين؟”، مما يجعل النساء يشعرن بأنهن مضطرات للإنجاب حتى لا يواجهن الوحدة أو الفراغ العاطفي في المستقبل.
في بعض الحالات، يتم استخدام الدين كأداة ضغط، حيث يُقال للنساء إن الأمومة “واجب ديني”، وإن رفض الإنجاب هو خروج عن القيم الأسرية. في بعض الدول، تُستخدم خطب المساجد والبرامج الدينية للترويج لفكرة أن المرأة خُلقت لتكون أمًا، مما يجعل أي خيار آخر يبدو وكأنه تحدٍّ للعقيدة والتقاليد.
تقول الأخصائية النفسية البحرينية ريم الشهابي إن العديد من النساء يعانين من اكتئاب ما بعد الولادة ليس فقط بسبب التغيرات الهرمونية، بل لأنهن أنجبن تحت ضغط اجتماعي ولم يكنّ مستعدات نفسيًا لتجربة الأمومة. المجتمع يروج لفكرة أن كل امرأة ستشعر بالسعادة بمجرد أن تصبح أمًا، لكنه لا يعترف بأن بعض النساء قد لا يجدن أنفسهن في هذا الدور، مما يجعلهن يشعرن بالذنب والندم بعد الإنجاب.
رغم كل هذه الضغوط، بدأت بعض النساء في العالم العربي برفض القواعد المجتمعية المفروضة عليهن، والمطالبة بحقهن في تقرير مصيرهن الإنجابي. في بعض الدول، ظهرت حركات نسوية تناقش علنًا موضوع الأمومة الإجبارية، وتطالب بإدراج حقوق الإنجاب كجزء من الحريات الشخصية الأساسية.
لكن الطريق لا يزال طويلًا، حيث تواجه هذه الأفكار مقاومة عنيفة من المجتمعات التقليدية التي ترى في النساء مجرد أدوات لإنجاب الأطفال. لتحقيق تغيير حقيقي، يجب أن يكون هناك وعي مجتمعي بأن الأمومة ليست شرطًا لنجاح المرأة أو قيمتها في المجتمع، وأن لكل امرأة الحق في اختيار ما إذا كانت تريد أن تصبح أمًا أم لا، دون أي ضغوط أو تهديدات.
السؤال الذي يبقى مفتوحًا: هل يمكن للمرأة العربية أن تمتلك حق تقرير مصيرها الإنجابي، أم أن الأمومة ستظلّ قيدًا مجتمعيًا مفروضًا عليها مدى الحياة؟