Spread the love

في خطوة جديدة تعكس تصعيد المواجهة بين الغرب وروسيا، وافقت دول الاتحاد الأوروبي الـ27 على فرض حزمة جديدة من العقوبات ضد موسكو، تستهدف بشكل خاص أسطول ناقلات النفط الروسي. تأتي هذه العقوبات في إطار الجهود المستمرة لشل الاقتصاد الروسي والحد من قدرته على تمويل حربه في أوكرانيا، لكنها في الوقت ذاته تثير تساؤلات حول مدى فعاليتها وإمكانية أن تؤدي إلى ردود فعل انتقامية من الكرملين.

على مدار العامين الماضيين، لجأت أوروبا إلى فرض أكثر من 13 حزمة من العقوبات ضد روسيا، شملت مختلف القطاعات الاقتصادية، من البنوك والطاقة إلى الطيران والشحن البحري. ومع ذلك، أثبت الاقتصاد الروسي قدرة ملحوظة على التكيف، حيث تمكن الكرملين من تطوير آليات التفاف على هذه العقوبات، بما في ذلك الاعتماد المتزايد على الصين والهند وتركيا في تصدير النفط، فضلًا عن استخدام أسطول ناقلات الظل الذي يساعد في استمرار تدفق النفط الروسي إلى الأسواق العالمية دون المرور عبر القنوات المالية الغربية.

إدراج أسطول الناقلات الروسية ضمن العقوبات يشير إلى تحول جديد في استراتيجية الاتحاد الأوروبي، حيث لم يعد التركيز مقتصرًا على تقييد الصادرات النفطية الروسية من خلال تحديد سقف للأسعار، بل بات يستهدف الوسائل اللوجستية التي تعتمد عليها موسكو للحفاظ على تدفق إيراداتها النفطية. ومن شأن هذه الخطوة أن تزيد من كلفة نقل النفط الروسي، ما قد يدفع موسكو إلى خفض إنتاجها، أو البحث عن وسائل تهريب أكثر تعقيدًا، وهو أمر قد يرفع أسعار النفط عالميًا، وبالتالي يضع الغرب في مواجهة تداعيات اقتصادية غير محسوبة.

في المقابل، قد تدفع هذه العقوبات روسيا إلى تسريع استراتيجيتها للتحايل عبر تعزيز شراكاتها مع الصين وإيران، اللتين توفران لها موانئ بديلة وأنظمة مالية موازية لتسهيل عمليات التجارة الخارجية. كما أن هذه العقوبات قد تسرّع من تعزيز الكتلة الاقتصادية المناهضة للغرب، والتي تقودها موسكو وبكين عبر تحالفات مثل مجموعة بريكس ومنظمة شنغهاي.

على المستوى السياسي، يمكن لهذه العقوبات أن تعزز السردية التي يروج لها الكرملين بشأن “الحصار الغربي” ومحاولة خنق روسيا اقتصاديًا، ما قد يسهم في زيادة شعبية الرئيس فلاديمير بوتين داخليًا، خاصة في ظل استعداد موسكو لمرحلة جديدة من المواجهة مع الغرب. وقد تستغل روسيا هذه العقوبات لتبرير مزيد من الخطوات التصعيدية، سواء في أوكرانيا أو عبر تهديد مصالح أوروبا في مجالات أخرى، مثل الأمن السيبراني أو تدفقات الطاقة.

أما عن فعالية هذه العقوبات، فإن التجربة تشير إلى أن الضغط الاقتصادي وحده لا يؤدي بالضرورة إلى تغيير سلوك موسكو. ففي حين أن العقوبات الغربية منذ 2014 (بعد ضم القرم) أضعفت بعض القطاعات الاقتصادية الروسية، إلا أنها لم تمنع الكرملين من المضي قدمًا في سياساته العسكرية والتوسعية. بل على العكس، دفعت هذه العقوبات روسيا إلى تبني نهج اقتصادي أكثر اعتمادًا على الذات، وزيادة التعاون مع دول خارج المنظومة الغربية.

الرهان الأوروبي على العقوبات كأداة رئيسية للضغط على روسيا قد يكون محفوفًا بالمخاطر إذا لم يترافق مع استراتيجية أوسع تشمل تعزيز القدرات الدفاعية لأوكرانيا، وتقديم حوافز دبلوماسية لحل النزاع بطريقة لا تسمح لموسكو بإملاء شروطها. وفي غياب مثل هذه الاستراتيجية المتكاملة، قد تتحول العقوبات إلى مجرد إجراء رمزي يزيد من حدة الاستقطاب دون أن يغير قواعد اللعبة.

من بين التداعيات المحتملة لهذه العقوبات، قد نشهد تحولًا في استراتيجيات روسيا فيما يتعلق بالأسواق الآسيوية والإقليمية. فقد تسعى موسكو إلى تعزيز صادراتها النفطية عبر شبكات غير تقليدية، مثل التوسع في استخدام الممرات البرية عبر آسيا الوسطى أو تعزيز التعاون مع دول مثل فنزويلا وإيران، التي لديها خبرة طويلة في التهرب من العقوبات الغربية. ومن غير المستبعد أن تلجأ روسيا إلى بيع النفط بأسعار مخفضة لدول حليفة، ما قد يؤدي إلى تغييرات ديناميكية في أسواق الطاقة العالمية، ويخلق تحالفات اقتصادية جديدة خارج إطار الهيمنة الغربية.

كما أن استهداف أسطول الناقلات الروسي قد يدفع موسكو إلى تطوير أدوات مالية بديلة، مثل تعزيز المدفوعات باليوان الصيني أو الروبل في صفقات الطاقة، وهو ما يعكس اتجاهاً متزايداً نحو فك الارتباط بالنظام المالي الغربي. هذا بدوره قد يشجع دولًا أخرى على اتباع نهج مماثل، ما يعزز فكرة عالم متعدد الأقطاب اقتصاديًا.

علاوة على ذلك، فإن العقوبات قد تدفع الكرملين إلى اتخاذ خطوات أكثر حدة في ملف أوكرانيا، سواء عبر تصعيد العمليات العسكرية أو محاولة زعزعة استقرار دول الجوار كوسيلة للضغط على الاتحاد الأوروبي وإجباره على إعادة النظر في نهجه الصارم تجاه موسكو.

في النهاية، يظل السؤال المطروح: هل تستطيع هذه العقوبات بالفعل إضعاف روسيا أم أنها ستدفعها إلى مزيد من التكيف والمواجهة؟ الإجابة ستتضح في الأشهر القادمة، مع استمرار الصراع في أوكرانيا وتطور المشهد الجيوسياسي العالمي.

“بعمق” زاوية أسبوعية سياسية تحليلية على “شُبّاك” يكتبها رئيس التحرير: مالك الحافظ

error: Content is protected !!