يشهد مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي حالة من الانقسام العميق بشأن توجهاته المقبلة فيما يتعلق بأسعار الفائدة، إذ يتباين رأي المسؤولين حول مدى الحاجة إلى خفض الفائدة ومدى تأثير السياسات الحالية على الاقتصاد الأمريكي.
ففي اجتماعهم الأخير يومي 6 و7 نوفمبر/تشرين الثاني، ناقش أعضاء اللجنة مدى تأثير المستوى الحالي لأسعار الفائدة على النشاط الاقتصادي، وما إذا كان هذا التأثير كافياً لخفض التضخم دون الإضرار بالنمو. وبحسب محضر الاجتماع، لم يكن هناك مسار محدد مسبقاً للسياسة النقدية، بل أكد المشاركون على أن قرارات الفيدرالي ستظل مشروطة بتطور الاقتصاد والتوقعات المستقبلية.
وفي خطوة أولى نحو التيسير النقدي، قرر الفيدرالي خفض سعر الفائدة بربع نقطة مئوية إلى نطاق يتراوح بين 4.50% و4.75%، وذلك في اجتماع عُقد بعد ثلاثة أسابيع من فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية. ومع ذلك، لم يقدم الفيدرالي أي توجيهات واضحة حول مسار الفائدة المستقبلي، مفضلاً الإبقاء على خياراته مفتوحة.
منذ بداية عام 2024، أصبح التضخم في الولايات المتحدة أحد التحديات الرئيسية التي تواجه الفيدرالي، حيث تحاول السلطات تحقيق توازن بين السيطرة على الأسعار دون التأثير السلبي على سوق العمل والنشاط الاقتصادي.
وقد أشار مسؤولو الفيدرالي في اجتماعهم إلى أن التضخم يبدو “تحت السيطرة تقريباً”، وأن خطر الارتفاع الحاد في البطالة قد تضاءل. ولكن على الرغم من هذه الإشارات الإيجابية، فإن بعض الأعضاء عبروا عن قلقهم من أن التضخم قد يظل مرتفعاً بشكل مقلق، مما قد يتطلب تجميد أي قرارات بشأن خفض الفائدة مؤقتاً حتى تتضح الصورة بشكل أكبر.
سوق العمل تحت المجهر: هل يشكل تراجع النشاط الاقتصادي تهديداً؟
يرتبط قرار خفض الفائدة ارتباطاً وثيقاً بوضع سوق العمل الأمريكي. ففي الوقت الذي يرى فيه البعض أن الاقتصاد لا يزال قوياً بما يكفي لتحمل أسعار الفائدة المرتفعة، يشير آخرون إلى أن أي تراجع في النشاط الاقتصادي أو في التوظيف قد يتطلب تحركاً سريعاً لخفض الفائدة بوتيرة أسرع.
وبحسب محضر الاجتماع، فقد ناقش مسؤولو الفيدرالي سيناريوهين محتملين، الإبقاء على أسعار الفائدة عند مستويات مرتفعة لفترة أطول إذا استمر التضخم في معدلاته الحالية، وهو ما يعني تشديداً نقدياً أكثر صرامة قد يؤدي إلى تباطؤ في النمو. وتسريع خفض الفائدة إذا شهد سوق العمل تباطؤاً أو تعثر النشاط الاقتصادي، لتجنب ركود محتمل.
ويرى الخبير الاقتصادي أندرو كلارك أن “الاحتياطي الفيدرالي يواجه موقفاً دقيقاً للغاية، إذ أن أي تحرك غير محسوب قد يؤدي إما إلى ارتفاع التضخم مجدداً، أو إلى إضعاف الاقتصاد أكثر من اللازم”.
لا تأتي قرارات الفيدرالي في فراغ، بل تتأثر بمجموعة من العوامل الاقتصادية والسياسية التي تعقد المشهد النقدي الأمريكي. ومن بين أبرز هذه العوامل: التوترات الجيوسياسية العالمية، التي تخلق ضغوطاً على أسعار الطاقة والسلع الأساسية، مما قد يزيد من التضخم. كذلك التغيرات المناخية والعواصف، التي أثرت على قطاعات اقتصادية رئيسية في الولايات المتحدة. الإضرابات العمالية، التي أضرت بسلاسل التوريد وزادت من تكاليف الإنتاج، مما قد يؤدي إلى ارتفاع الأسعار. ونتائج الانتخابات الرئاسية، حيث أن عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض قد تعني تغييرات في السياسة الاقتصادية قد تؤثر على توجهات الفيدرالي في المستقبل القريب.
ويؤكد المحلل المالي ريتشارد هاربر أن “الفيدرالي الأمريكي ليس فقط تحت ضغط الأوضاع الاقتصادية، بل أيضاً تحت تأثير التوترات السياسية، حيث أن أي تغيير في السياسات الضريبية أو التجارية خلال عهد ترامب قد يغير مسار الاقتصاد الأمريكي بالكامل”.
رد فعل الأسواق: حالة من الترقب والحذر
جاءت استجابة الأسواق المالية مختلطة بعد صدور محضر الاجتماع، حيث تراجعت عوائد السندات الأمريكية، بينما شهدت أسواق الأسهم ارتفاعاً طفيفاً نتيجة الآمال بأن الفيدرالي قد يتجه إلى تخفيف سياسته النقدية بشكل أسرع من المتوقع.
لكن رغم هذه التحركات، لا تزال حالة عدم اليقين تسيطر على المستثمرين، حيث ينتظرون مزيداً من الإشارات حول مستقبل الفائدة في الأشهر المقبلة.
ويقول المحلل الاستثماري جورج ميلتون: “الأسواق تدرك أن الفيدرالي لن يتخذ قرارات متسرعة، لكنه في الوقت ذاته قد يجد نفسه مضطراً إلى خفض الفائدة إذا بدأ الاقتصاد في إظهار علامات تباطؤ واضحة”.
في ظل الانقسام داخل الفيدرالي، يبدو أن البنك المركزي الأمريكي سيتبنى سياسة أكثر مرونة تعتمد على تطورات البيانات الاقتصادية خلال الأشهر المقبلة.
ومن المتوقع أن يكون الاجتماع المقبل لمجلس الاحتياطي الفيدرالي محورياً، حيث سيركز صناع القرار على؛ معدل التضخم في الربع الأول من 2025، وما إذا كان يواصل الانخفاض أو يبقى عند مستويات مرتفعة. وحالة سوق العمل، وما إذا كانت الشركات لا تزال قادرة على خلق وظائف جديدة. والتأثيرات السياسية المحتملة مع اقتراب موعد تولي ترامب مهامه في البيت الأبيض، وما قد يعنيه ذلك لأسواق المال والسياسات الاقتصادية.
السيناريوهات المحتملة
إذا استمر التضخم في التراجع، فقد يتجه الفيدرالي إلى خفض تدريجي لأسعار الفائدة بدءاً من النصف الثاني من 2025. وإذا استقر التضخم عند مستوياته الحالية أو ارتفع مجدداً، فقد يضطر الفيدرالي إلى الإبقاء على الفائدة مرتفعة لفترة أطول، مما قد يؤدي إلى تباطؤ اقتصادي أكثر حدة. أما إذا بدأ سوق العمل في التراجع بشكل ملحوظ، فقد يضطر الفيدرالي إلى تسريع وتيرة خفض الفائدة لدعم النمو الاقتصادي ومنع الركود.
يبدو أن الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي يسير في مرحلة من الضبابية غير المسبوقة، حيث يجد نفسه أمام معادلة صعبة: خفض الفائدة لدعم الاقتصاد، أم الحفاظ عليها لتجنب التضخم؟
وفي ظل هذا المشهد المعقد، يبقى السؤال الأساسي: هل سيتمكن الفيدرالي من إدارة هذه التحديات بنجاح، أم أننا مقبلون على مرحلة من التقلبات الاقتصادية التي قد تؤثر على الأسواق العالمية بأكملها؟