لطالما كان الاقتصاد العالمي قائماً على نموذج خطي يعتمد على مبدأ “استخراج، تصنيع، استهلاك، ثم التخلص”، مما أدى إلى تراكم النفايات، واستنزاف الموارد الطبيعية، وتفاقم الأزمات البيئية. في مواجهة هذه التحديات، برز مفهوم “الاقتصاد الدائري” كحل مستدام يهدف إلى إطالة دورة حياة المنتجات، وتقليل الهدر، وتعظيم الاستفادة من الموارد. لكن، هل يمكن لهذا النموذج أن يحل محل الاقتصاد التقليدي؟ وما هي العقبات التي تعيق تطبيقه على نطاق واسع، خاصة في الدول العربية؟
على عكس النموذج التقليدي، يسعى الاقتصاد الدائري إلى تقليل الفاقد وإعادة استخدام الموارد بأقصى درجة ممكنة. يعتمد هذا النموذج على تصميم المنتجات بطريقة تتيح إعادة تدويرها أو تجديدها، بدلاً من التخلص منها عند انتهاء صلاحيتها. كما يشجع على استخدام المواد القابلة للتحلل، وتحويل النفايات إلى موارد جديدة يمكن إدخالها مجدداً في دورة الإنتاج.
تقوم بعض الدول الأوروبية، مثل هولندا والسويد، بتطبيق هذا النموذج من خلال فرض سياسات صارمة على الشركات لإنتاج سلع تدوم لفترة أطول، وتقليل النفايات الإلكترونية، وإعادة استخدام المخلفات الصناعية. في المقابل، لا تزال معظم الدول النامية تعتمد على أنظمة اقتصادية تقليدية تزيد من استنزاف الموارد الطبيعية دون خطط واضحة لإعادة التدوير أو تقليل الهدر.
يقول الدكتور هيثم العجيلي، أستاذ الاقتصاد البيئي بجامعة طرابلس، إن “الاقتصاد الدائري ليس مجرد فكرة نظرية، بل يمكن أن يحقق فوائد اقتصادية هائلة من خلال تقليل الاعتماد على الموارد الخام، وخلق فرص عمل جديدة في مجالات إعادة التدوير والصناعات المستدامة”. لكنه يشير إلى أن “الانتقال إلى هذا النموذج يحتاج إلى تغيير جذري في سياسات الإنتاج والاستهلاك، وهو ما يتطلب إرادة سياسية واستثمارات كبيرة”.
لماذا لا يزال الاقتصاد الدائري غير مطبق على نطاق واسع؟
رغم الفوائد البيئية والاقتصادية، لا تزال هناك عقبات كبيرة أمام تبني الاقتصاد الدائري على نطاق واسع. أحد أبرز هذه التحديات هو أن الشركات الكبرى، التي تعتمد على نموذج الإنتاج السريع والاستهلاك المتكرر، لا تزال تهيمن على الأسواق العالمية، ما يجعل التحول إلى نموذج أكثر استدامة أمراً معقداً.
في قطاع الموضة، على سبيل المثال، لا تزال صناعة الأزياء السريعة تهيمن على السوق، حيث يتم إنتاج مليارات القطع سنوياً بأسعار زهيدة، ما يدفع المستهلكين إلى شراء كميات كبيرة من الملابس التي ينتهي بها المطاف في مكبات النفايات بعد فترة قصيرة من الاستخدام. في قطاع الإلكترونيات، لا تزال معظم الشركات الكبرى تصمم الأجهزة بحيث يصعب إصلاحها أو إعادة تدويرها، مما يؤدي إلى تراكم ملايين الأطنان من النفايات الإلكترونية سنوياً.
الدكتورة رُبى المصري، الباحثة في الاستدامة الصناعية بجامعة بيروت العربية، ترى أن “الاقتصاد الدائري يتطلب إعادة تصميم المنتجات من البداية لتكون قابلة للتدوير أو التجديد، وهو ما قد لا يكون مربحاً للشركات التي تعتمد على دورات استهلاك قصيرة الأمد”. لكنها تضيف أن “هناك اتجاهاً متزايداً نحو فرض تشريعات تلزم الشركات بتبني ممارسات أكثر استدامة، مما قد يسرّع من التحول إلى هذا النموذج في المستقبل”.
رغم التحديات، بدأت بعض الدول في تحقيق نجاحات ملحوظة في تطبيق الاقتصاد الدائري. في السويد، يتم إعادة تدوير أكثر من 99% من النفايات المنزلية، حيث يتم تحويل جزء كبير منها إلى طاقة كهربائية عبر محطات توليد الطاقة من النفايات. في اليابان، تبنت الحكومة سياسات لتشجيع تصنيع المنتجات الإلكترونية بطريقة تسهل إعادة تدويرها، مما أدى إلى تقليل حجم النفايات الإلكترونية بشكل كبير.
أما في الصين، فقد أطلقت الحكومة برنامج “المدينة الصفرية النفايات”، الذي يهدف إلى تحويل عدة مدن إلى نماذج مستدامة تعتمد على إعادة التدوير بالكامل، وتقليل إنتاج المخلفات إلى أدنى حد ممكن. في قطاع السيارات، بدأت بعض الشركات مثل “تسلا” و”بي إم دبليو” في تطوير بطاريات يمكن إعادة تدويرها بالكامل، مما يقلل الحاجة إلى استخراج مواد جديدة مثل الليثيوم والكوبالت.
هل يمكن تطبيق الاقتصاد الدائري في العالم العربي؟
في الدول العربية، لا يزال الاقتصاد الدائري في مراحله الأولى، حيث تعتمد معظم الدول على أنظمة تقليدية لإدارة النفايات، دون وجود استراتيجيات واضحة لإعادة التدوير على نطاق واسع. لكن رغم ذلك، هناك بعض المبادرات الواعدة التي بدأت تظهر في بعض الدول.
في الإمارات، أطلقت الحكومة مشروع “الاقتصاد الدائري 2030″، الذي يهدف إلى تقليل النفايات، وتشجيع الشركات على تبني ممارسات إنتاج مستدامة. في السعودية، بدأت بعض المدن بتطبيق أنظمة جديدة لإعادة تدوير النفايات، كجزء من رؤية 2030 التي تركز على تطوير قطاع الاقتصاد الأخضر. في المغرب، يجري العمل على مشاريع لتحويل النفايات العضوية إلى طاقة، مما يسهم في تقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري.
لكن لا تزال هناك تحديات كبيرة، حيث أن معظم المدن العربية تفتقر إلى بنية تحتية متطورة لإدارة النفايات، كما أن الوعي البيئي بين المستهلكين لا يزال منخفضاً، مما يعيق تبني نماذج استهلاك أكثر استدامة.
يقول الدكتور جمال الكندري، أستاذ الاقتصاد المستدام بجامعة الكويت، إن “العالم العربي بحاجة إلى تغيير جذري في طريقة إدارة موارده، حيث لا يمكن الاستمرار في استنزاف الموارد بنفس الوتيرة الحالية”. ويرى أن “الاقتصاد الدائري يمكن أن يكون حلاً مثالياً للدول العربية التي تعاني من شح الموارد، لكنه يتطلب سياسات قوية، واستثمارات في البنية التحتية، وتشجيع الصناعات المحلية على تبني ممارسات إنتاج أكثر استدامة”.
هل نحن مستعدون للتخلي عن ثقافة الاستهلاك؟
أحد أكبر التحديات التي تواجه الاقتصاد الدائري هو تغيير سلوكيات المستهلكين، حيث أن الثقافة الاستهلاكية الحالية تشجع على شراء المزيد من المنتجات، دون التفكير في تأثير ذلك على البيئة. في العديد من الدول، لا تزال المنتجات القابلة لإعادة التدوير أغلى من المنتجات التقليدية، مما يجعل من الصعب إقناع المستهلكين بالتحول إلى أنماط استهلاك أكثر استدامة.
لكن مع تزايد الوعي البيئي، بدأت بعض الحكومات في اتخاذ خطوات لتشجيع المستهلكين على تبني نمط حياة أكثر استدامة. في فرنسا، تم فرض ضرائب إضافية على المنتجات البلاستيكية التي لا يمكن إعادة تدويرها، بينما في ألمانيا، يتم تقديم حوافز مالية للأشخاص الذين يشترون أجهزة إلكترونية قابلة للإصلاح بدلاً من الأجهزة ذات العمر الافتراضي القصير.
رغم أن الاقتصاد الدائري لا يزال في مراحله الأولى، إلا أن الاتجاه نحو تقليل الهدر وإعادة التدوير أصبح ضرورة لا مفر منها. في ظل التحديات البيئية المتزايدة، قد يكون التخلي عن مبدأ “الإنتاج ثم التخلص” هو الحل الوحيد لضمان استدامة الموارد للأجيال القادمة. لكن نجاح هذا النموذج يعتمد على مدى استعداد الحكومات والشركات والمستهلكين لتغيير أنماط الإنتاج والاستهلاك، والتخلي عن النموذج التقليدي الذي كان سائداً لعقود.
السؤال المطروح اليوم هو: هل يمكن للعالم تبني اقتصاد بلا نفايات، أم أن المصالح الاقتصادية ستظل عائقاً أمام تحقيق هذه الرؤية؟ حتى الآن، يبدو أن الطريق لا يزال طويلاً، لكن التغيير قد يكون أقرب مما نتصور إذا توفرت الإرادة السياسية والتكنولوجية لتحقيقه.