تدخل موريتانيا مرحلة جديدة من الحراك السياسي مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية المقررة في يونيو 2024. المشهد السياسي يعكس حالة من الاستقرار الظاهري، لكن في العمق، تكشف الأحداث المتسارعة عن تحديات كبيرة تواجه التجربة الديمقراطية في البلاد. ففي ظل إجماع أحزاب الموالاة على دعم الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، وانقسامات المعارضة، ومطالبات قوى سياسية جديدة بانقلاب “سياسي ديمقراطي”، تبرز تساؤلات جوهرية حول مدى نزاهة هذه الانتخابات، وحقيقة التعددية السياسية في موريتانيا، وإمكانية حدوث تغيير سياسي حقيقي.
يبدو أن الرئيس الغزواني يقترب من ولاية ثانية دون منافسة جدية، حيث سارعت أحزاب الموالاة الثلاثة عشر إلى تأييده بشكل قاطع. هذا التوافق السياسي يرسل إشارة واضحة بأن الانتخابات القادمة لن تشهد منافسة حقيقية، بل ستكون بمثابة استفتاء شعبي على استمرار حكمه. كما أن المجتمع الدولي ينظر إلى موريتانيا في ظل الغزواني كحالة استثناء وسط محيط مضطرب يعج بالانقلابات العسكرية، مما يجعل استقرار حكمه خياراً مفضلاً لدى الأطراف الدولية.
لمواجهة الانتقادات الموجهة إليه، أظهر الغزواني اهتماماً ملحوظاً بالجانب الاجتماعي، حيث زاد من معاشات المتقاعدين، وعمم الضمان الصحي، وأطلق مشاريع تنموية كبرى. لكن في المقابل، أقر نظامه قوانين مثيرة للجدل مثل قانون حماية الرموز الوطنية الذي اعتبره البعض تقييداً لحرية التعبير. هذه الإجراءات تعكس استراتيجية تقوم على تقديم مكاسب اجتماعية لتحييد أي معارضة سياسية قوية.
أحد أبرز العوامل التي تعزز موقف الغزواني هو تصفية المشهد السياسي من منافسيه المحتملين، وأبرزهم الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز، الذي حُكم عليه بالسجن خمس سنوات ومُنع قانونياً من الترشح. هذه المحاكمة ليست مجرد قضية فساد، بل لها أبعاد سياسية تمنع عودة النظام السابق للمنافسة، وتؤمن استمرار الغزواني في السلطة دون تهديد حقيقي.
في حين تهادنت الأحزاب المعارضة التقليدية مع النظام، يبقى حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية (إسلاميو موريتانيا) الصوت المعارض الأكثر وضوحاً. تصريحات رئيسه حمادي ولد سيدي المختار حول عدم نزاهة الانتخابات المقبلة تعكس مخاوف حقيقية من تكرار “الاختلالات” التي شابت الانتخابات السابقة. غير أن قدرة هذا الحزب على التأثير تبقى محدودة بسبب عدم وجود تحالفات واسعة النطاق يمكن أن تواجه الهيمنة المطلقة لحزب الإنصاف الحاكم.
ظهور تيار “التحرير والتنمية” بقيادة أحمد ولد هارون يعكس محاولات بعض الفئات الشابة لإحداث تغيير سياسي خارج الأطر التقليدية. لكن دعوته إلى “انقلاب سياسي ديمقراطي” تثير تساؤلات حول مدى واقعية هذا الطرح، خاصة في بيئة سياسية تسيطر عليها القوى التقليدية، وتتمتع فيها السلطة بأدوات ضبط شديدة على المجال العام.
الأحزاب المعارضة العريقة وقعت ميثاقاً جمهورياً مع حزب الغزواني، مما يعني عملياً أنها تخلت عن أي مواجهة انتخابية حقيقية. هذه المهادنة تضعف فرص أي تغيير سياسي، وتجعل الغزواني في موقع قوة أمام خصومه.
موريتانيا تُعتبر دولة محورية في منطقة الساحل، التي تواجه موجة غير مسبوقة من الانقلابات في النيجر ومالي وبوركينا فاسو. في هذا السياق، تُفضل القوى الإقليمية والدولية استقرار النظام الحالي، خوفاً من انتقال عدوى عدم الاستقرار إلى نواكشوط. كما أن فرنسا والولايات المتحدة تريان في الغزواني شريكاً يمكن التعامل معه لضبط الأمن الإقليمي، ومواجهة خطر الجماعات المسلحة في الساحل. هذا الدعم الخارجي يعزز موقفه، ويقلل من فرص أي تغيير جوهري في المشهد السياسي الموريتاني.
السيناريو الأكثر ترجيحاً هو فوز الغزواني بولاية ثانية دون منافسة حقيقية، مستفيداً من ضعف المعارضة، والدعم الدولي، واستقرار نظامه. لكن هذا لا يعني أن الأمور ستكون سهلة، إذ قد يواجه ضغوطاً داخلية متزايدة بسبب المطالب الشعبية بتحسين الوضع الاقتصادي، ومطالب القوى الشبابية بالمزيد من الانفتاح السياسي.
إذا تمكن الإسلاميون أو التيارات الشبابية مثل “حركة التحرير والتنمية” من توحيد صفوفهم، فقد تتشكل كتلة معارضة أكثر تأثيراً بعد الانتخابات. غير أن نجاح هذا السيناريو يتطلب كسر حاجز المهادنة السياسية التي تمارسها أحزاب المعارضة التقليدية.
لمواجهة أي استياء داخلي أو ضغوط خارجية، قد يُقدم الغزواني على إصلاحات سياسية جزئية، مثل توسيع المشاركة السياسية أو تحسين بيئة الانتخابات، دون أن تصل هذه الإصلاحات إلى حد تهديد سيطرة النظام.
الانتخابات الرئاسية في موريتانيا تبدو محسومة لصالح الغزواني، في ظل غياب منافسة حقيقية، ودعم دولي لاستقرار النظام. المعارضة تبدو ضعيفة ومنقسمة، بينما يظهر جيل جديد من المعارضين بأساليب غير تقليدية، لكنه يفتقر إلى النفوذ الكافي لإحداث تغيير حقيقي. ومع ذلك، فإن الاستقرار السياسي الذي تتمتع به موريتانيا لا يعني أن التحديات قد انتهت، فالمطالب الشعبية والإصلاحات السياسية والاقتصادية ستظل عوامل تحدد مستقبل البلاد بعد الانتخابات. والسؤال الأهم: هل سيكتفي الغزواني بولاية ثانية هادئة، أم أنه سيضطر لمواجهة ضغوط التغيير خلال السنوات القادمة؟
“بعمق” زاوية أسبوعية سياسية تحليلية على “شُبّاك” يكتبها رئيس التحرير: مالك الحافظ