الخميس. أكتوبر 17th, 2024

الانقلاب العسكري في سوريا 1961: حقائق جديدة تكشف دور القوى الإقليمية

ما قبل الانقلاب

في عام 1958، تم إعلان الوحدة بين مصر وسوريا تحت مسمى “الجمهورية العربية المتحدة”، وهو حدث كان له دلالات كبيرة على الساحة العربية، حيث رأى فيه البعض خطوة نحو الوحدة العربية الشاملة. ولكن هذه الوحدة لم تدم طويلًا، إذ بدأت الخلافات تظهر بين النخب العسكرية والسياسية في سوريا ومصر. السوريون شعروا بالاستياء من سيطرة مصر على القرارات الاقتصادية والسياسية، مما أدى إلى توتر العلاقات بين النخبتين.

التوترات وصلت ذروتها عندما شعر الضباط السوريون، الذين كانوا في البداية داعمين للوحدة، بأنهم مهمشون من قبل نظرائهم المصريين. هذا الاستياء من تهميش القرار السوري وتغليب المصلحة المصرية على حساب سوريا أدى إلى تبلور فكرة الانقلاب داخل الجيش السوري. العقيد عبد الكريم النحلاوي، الذي كان من بين أبرز الضباط المعارضين للوحدة، قاد مجموعة من الضباط لتنفيذ الانقلاب في سبتمبر 1961، بهدف إعادة سوريا إلى وضعها المستقل.

الدور الخفي للقوى الإقليمية والدولية

في خلفية هذا الحدث، كانت هناك صراعات إقليمية ودولية تلعب دورها في تحديد مصير سوريا. بعض الوثائق السرية التي تم الكشف عنها مؤخرًا تشير إلى أن دولًا مثل العراق والأردن كانت تراقب الوضع عن كثب. العراق، بقيادة عبد الكريم قاسم، كان يسعى للتأثير على مجريات الأمور في سوريا لضمان عدم انجرارها نحو معسكر القومية العربية الذي كان يقوده جمال عبد الناصر في مصر. من جهة أخرى، الأردن كان يسعى للحفاظ على توازن القوى في المنطقة، خاصة في ظل التهديدات التي كان يواجهها الملك حسين من التيارات القومية والناصرية.

على الصعيد الدولي، كانت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي يراقبان التطورات في سوريا بحذر. بالنسبة للولايات المتحدة، كان من المهم الحفاظ على استقرار المنطقة ومنعها من الوقوع بشكل كامل تحت سيطرة المعسكر السوفيتي. على الجانب الآخر، كان الاتحاد السوفيتي داعمًا لحركات التحرر الوطني في العالم العربي، ولكن بدا أن موقفه من الوحدة السورية المصرية كان أكثر تعقيدًا، خاصة عندما بدأت تظهر علامات الاستياء داخل سوريا.

كانت الولايات المتحدة قلقة من أن يؤدي عدم الاستقرار في سوريا إلى مزيد من النفوذ السوفيتي في المنطقة. كانت واشنطن تراقب الوضع عن كثب، وبدأت في تقديم دعم سري لبعض الفصائل المناهضة للتيارات القومية القوية التي بدأت بالظهور بعد الانقلاب. هذه العلاقات المتوترة شكلت جزءًا من الحرب الباردة التي كانت تشهدها المنطقة.

 سوريا، التي كانت قد بدأت تقترب من المعسكر السوفيتي خلال فترة الوحدة، وجدت نفسها في موقف دقيق بعد الانقلاب. الاتحاد السوفيتي كان يدعم بشكل عام الوحدة العربية ويرى فيها وسيلة لتعزيز نفوذه في الشرق الأوسط. الانقلاب السوري، الذي أنهى الوحدة مع مصر، أثار قلقًا في موسكو من أن سوريا قد تتجه نحو الغرب أو تقع تحت تأثير القوى الإقليمية الأخرى المعادية للسوفييت. هذا القلق أدى إلى تراجع الدعم السوفيتي لسوريا في بعض المجالات، مما ترك فراغًا حاولت القوى الإقليمية الأخرى استغلاله.

وثائق سرية تم الكشف عنها في وقت لاحق أظهرت أن إسرائيل كانت تتابع عن كثب الأحداث في سوريا خلال فترة الوحدة مع مصر وبعد الانقلاب. رغم أن التورط الإسرائيلي المباشر في انقلاب 1961 ليس مؤكدًا، إلا أن المخابرات الإسرائيلية كانت على علم بالتوترات الداخلية في سوريا وسعت لاستغلال الوضع لصالحها. التقارير تشير إلى أن إسرائيل كانت تحاول جمع معلومات استخباراتية عن التحركات العسكرية السورية والاستفادة من الفوضى السياسية لتأمين حدودها الشمالية، وخاصة في ظل وجود تهديدات من قبل الفصائل القومية التي كانت تعتبر إسرائيل عدوًا رئيسيًا.

العلاقات مع دول الجوار

بعد الانقلاب، دخلت سوريا في فترة من الاضطرابات السياسية التي شهدت سلسلة من الانقلابات خلال السنوات القليلة التالية. الانقلاب الذي قاده النحلاوي لم يكن نهاية الصراع على السلطة في سوريا، بل كان بداية لفترة من الفوضى السياسية التي مهدت الطريق لصعود حزب البعث إلى السلطة في عام 1963، وهو ما شكل بداية عهد جديد من الحكم الاستبدادي الذي استمر لعقود.

على المستوى الإقليمي، أدى الانقلاب إلى توتر العلاقات بين سوريا ومصر، حيث شعر جمال عبد الناصر بالخيانة من قبل حلفائه السوريين. هذا التوتر أثر على العلاقات العربية بشكل عام، وأدى إلى تعميق الانقسامات بين الدول العربية حول مفهوم الوحدة العربية والتعاون الإقليمي.

وإضافة إلى التوترات مع مصر، أدى الانقلاب إلى توتر العلاقات بين سوريا والعراق. العراق، الذي كان يقوده عبد الكريم قاسم في ذلك الوقت، كان يطمح إلى توسيع نفوذه في سوريا. بعد الانقلاب، تصاعدت المخاوف العراقية من أن تؤدي الفوضى في سوريا إلى زعزعة استقرار المنطقة برمتها. أدى ذلك إلى سلسلة من المناوشات السياسية والدبلوماسية بين البلدين، خاصة حول قضايا الحدود وتوزيع الموارد المائية.

الانتقام السياسي والانشقاقات العسكرية 

بعد نجاح الانقلاب وإعادة سوريا إلى وضعها المستقل، بدأت موجة من الانتقام السياسي ضد الأفراد والمؤسسات التي كانت مؤيدة للوحدة مع مصر. العديد من الشخصيات السياسية البارزة، الذين كانوا في السابق من الداعمين الأقوياء للوحدة، تم إقصاؤهم من مواقعهم، وواجهوا مضايقات قانونية وأحيانًا اعتقالات. هذا الانتقام لم يكن مجرد إجراء سياسي، بل كان أيضًا طريقة لضمان عدم عودة النفوذ المصري إلى الساحة السورية.

كذلك شهد الجيش السوري سلسلة من الانشقاقات والتصفية الداخلية. بعض الضباط الذين كانوا جزءًا من الانقلاب شعروا بالتهديد نتيجة للصراعات الداخلية بين الفصائل المختلفة في الجيش. على سبيل المثال، العقيد عبد الكريم زهر الدين، الذي لعب دورًا محوريًا في الانقلاب، واجه ضغوطًا شديدة من زملائه الذين لم يوافقوا على بعض قراراته. هذا الوضع أدى إلى انشقاق بعض العناصر وتوجههم إلى المنفى، بينما تعرض آخرون للتصفية أو الاعتقال. هذه الانشقاقات كانت جزءًا من حالة عدم الاستقرار التي ميزت الفترة التالية للانقلاب.

شخصيات منسية

من بين الشخصيات التي لعبت دورًا بارزًا في انقلاب 1961، العقيد عبد الكريم النحلاوي، الذي كان من الداعمين الرئيسيين للوحدة في البداية، لكنه انقلب عليها عندما شعر بأنها لا تخدم مصالح سوريا. النحلاوي قاد الانقلاب، لكنه واجه لاحقًا مصيرًا معقدًا حيث انتهى به الأمر في المنفى بعد أن أطاح به انقلاب آخر بعد فترة وجيزة.

كما ظهرت شهادات حديثة من بعض الضباط الذين كانوا جزءًا من التحضير للانقلاب، تشير إلى وجود خلافات داخلية بين المنفذين حول طبيعة التحرك العسكري وتوقيته. هذه الشهادات تكشف عن مدى تعقيد الأحداث في تلك الفترة، وكيف أن الانقلاب كان محاطًا بالكثير من السرية والتوتر.

إلى جانب العقيد عبد الكريم النحلاوي، كان اللواء عبد الكريم زهر الدين أحد الشخصيات العسكرية البارزة التي لعبت دورًا مهمًا في انقلاب 1961. زهر الدين، الذي كان يشغل منصب رئيس الأركان العامة للجيش السوري، استخدم نفوذه العسكري لضمان نجاح الانقلاب. بعد الانقلاب، حاول زهر الدين تحقيق توازن بين القوى المختلفة في الجيش، ولكنه سرعان ما واجه تحديات داخلية وخارجية قوضت جهوده.

التأثيرات الاقتصادية والاجتماعية للانقلاب 

الانقلاب لم يؤثر فقط على السياسة في سوريا، بل كان له تأثيرات اقتصادية ملحوظة. في السنوات التي تلت الانقلاب، شهد الاقتصاد السوري تراجعًا نتيجة للاضطرابات السياسية المستمرة. تم تجميد العديد من الإصلاحات الاقتصادية التي كانت قد بدأت خلال فترة الوحدة مع مصر، مما أدى إلى تباطؤ النمو الاقتصادي وزيادة البطالة. هذا التراجع الاقتصادي ساهم في خلق بيئة خصبة لمزيد من التوترات السياسية والاجتماعية.

الانقلاب أدى إلى انقسام كبير بين النخب السياسية والعسكرية، وأدى إلى خلق حالة من عدم اليقين والخوف بين المواطنين. كما أن الفصائل السياسية المختلفة بدأت تستقطب الناس على أسس طائفية وإثنية، مما أدى إلى تدهور النسيج الاجتماعي السوري، وهو ما كان له تأثيرات طويلة الأمد على المجتمع.

Related Post