يواجه جوزف عون، الرئيس اللبناني المنتخب، إحدى أعقد الأزمات الاقتصادية في تاريخ البلاد، حيث تعاني لبنان من انهيار مالي غير مسبوق، تضخم مفرط، أزمة في الطاقة، وارتفاع الدين العام. وإلى جانب ذلك، فإن القطاع المصرفي منهار، والبطالة في تصاعد، والمجتمع الدولي متردد في تقديم أي دعم دون إصلاحات حقيقية.
وفي ظل هذه التحديات، يترقب اللبنانيون ما إذا كان الرئيس الجديد سيتمكن من اتخاذ قرارات جذرية لإنقاذ الاقتصاد، أم أن المصالح السياسية ستظل تعرقل أي إصلاح كما حدث في السابق.
الانهيار المالي والمصرفي: هل يمكن استعادة الثقة؟
منذ عام 2019، يشهد لبنان انهيارًا ماليًا كارثيًا، حيث فقدت الليرة اللبنانية 98% من قيمتها، ليصل سعر الصرف إلى 90 ألف ليرة مقابل الدولار، بعد أن كان 1500 ليرة فقط.
أما البنوك، التي كانت يومًا رمزًا للاستقرار الاقتصادي، فقد أصبحت عاجزة عن توفير السيولة، مما أدى إلى تجميد ودائع اللبنانيين بالدولار، الأمر الذي دمر مدخرات المواطنين وأدى إلى انهيار الثقة بالنظام المصرفي.
يقول جورج الحاج، الخبير المصرفي اللبناني لـ”شُبّاك”: “إعادة هيكلة القطاع المصرفي باتت ضرورة لا مفر منها، لكن المشكلة أن أي خطة إصلاحية ستتطلب خسائر كبيرة، ومن سيدفع الثمن؟ هل المودعون، أم البنوك، أم الدولة نفسها؟ هذا هو السؤال الأصعب.”
ويرى بعض المحللين أن الاتفاق مع صندوق النقد الدولي هو السبيل الوحيد لإنقاذ القطاع المصرفي، لكن المشكلة أن المفاوضات مع الصندوق مجمدة منذ سنوات بسبب فشل لبنان في تنفيذ الإصلاحات المطلوبة.
يقول مارك ضاهر، المستشار الاقتصادي في بيروت، “لبنان أمام خيارين، إما الدخول في برنامج مع صندوق النقد وتنفيذ إصلاحات موجعة لكنها ضرورية، أو الاستمرار في الانهيار حتى الوصول إلى نقطة اللاعودة.”
وصل التضخم في لبنان إلى مستويات تاريخية، حيث ارتفعت الأسعار بأكثر من 300% في بعض الفترات، وأصبح 80% من اللبنانيين تحت خط الفقر، وفق تقارير الأمم المتحدة.
تقول لارا نجم، ربة منزل في بيروت: “كنا نشتري كيس الأرز بـ 10 آلاف ليرة، اليوم سعره 500 ألف! حتى الحاجات الأساسية مثل الحليب والزيت أصبحت خارج متناول معظم العائلات.”
ولتجاوز هذه الأزمة، يحتاج الرئيس جوزف عون إلى سياسات اقتصادية عاجلة، تشمل، دعم الإنتاج المحلي لتقليل الاعتماد على الاستيراد، وتعزيز برامج الحماية الاجتماعية للفئات الأكثر ضعفًا، وإصلاح الدعم الحكومي بحيث يصل إلى المستحقين الفعليين فقط.
لكن المشكلة تكمن في أن مالية الدولة شبه منهارة، مما يعني أن أي دعم إضافي قد يؤدي إلى تفاقم العجز المالي، ويزيد الضغط على الاقتصاد.
يقول الدكتور سامي نصر، الخبير الاقتصادي في الجامعة الأمريكية في بيروتلـ”شُبّاك”، “الحكومة اللبنانية لا تملك الموارد لدعم الفقراء، ولا تملك القدرة على ضبط السوق. الحل الوحيد هو إعادة هيكلة الاقتصاد بالكامل، لكن هذا يتطلب قرارًا سياسيًا جريئًا.”
أزمة الطاقة: الكهرباء حلم بعيد المنال
يعيش اللبنانيون في ظلام مستمر، حيث تعتمد البلاد على مولدات خاصة مكلفة بسبب عجز محطات الكهرباء الحكومية عن تأمين الطاقة. ويعاني لبنان شح الوقود، مما أدى إلى انتعاش السوق السوداء، حيث تباع المحروقات بأسعار خيالية.
يقول ناجي حبيقة، مهندس كهربائي في بيروت: “لبنان بحاجة إلى ثورة في قطاع الطاقة، لا يمكن أن نبقى رهائن لمولدات خاصة وأسعار وقود متقلبة. الحل هو الاستثمار في الطاقة المتجددة، لكن هذا يتطلب رؤية بعيدة المدى.”
وتشير الدراسات إلى أن الحلول الممكنة تشمل، الاستثمار في الطاقة الشمسية والرياح لتقليل الاعتماد على المحروقات، وإصلاح قطاع الكهرباء عبر تقليل الهدر التقني وزيادة الكفاءة، وفتح السوق أمام الشركات الخاصة لضخ استثمارات جديدة في قطاع الطاقة.
لكن المشكلة الكبرى هي الفساد المستشري في قطاع الكهرباء، حيث تم هدر مليارات الدولارات خلال العقود الماضية دون أي تحسن يذكر.
يقول نبيل شقير، المحلل الاقتصادي في بيروت، “لبنان أنفق أكثر من 40 مليار دولار على الكهرباء منذ التسعينيات، والنتيجة؟ لا شيء. إذا لم يتم وضع حد للفساد، فإن أي خطة جديدة ستذهب أدراج الرياح.”
هذا ويعتبر الدين العام اللبناني من الأعلى عالميًا، حيث يتجاوز 150% من الناتج المحلي الإجمالي، مما يجعله غير مستدام على الإطلاق. وتواجه الحكومة عجزًا مالياً ضخماً بسبب ضعف الإيرادات وسوء الإدارة المالية.
تقول رنا حداد، الباحثة في الاقتصاد الكلي، “لبنان يحتاج إلى إعادة هيكلة الدين، لكن المشكلة أن أي خطوة في هذا الاتجاه ستتطلب مفاوضات مع الدائنين، وهو أمر صعب في ظل غياب حكومة قادرة على اتخاذ القرارات الحاسمة.”
ووفقًا لمصادر رسمية، فإن صندوق النقد الدولي كان قد اشترط على لبنان تنفيذ إصلاحات مالية جذرية تشمل، تقليص الإنفاق الحكومي وترشيده، وتحسين جباية الضرائب وتقليل التهرب الضريبي، وإعادة هيكلة الدين العام لضمان استدامة المالية العامة.
لكن هذه الإصلاحات لم تتحقق، مما جعل الوضع المالي في تدهور مستمر.
يجد جوزف عون نفسه أمام معركة اقتصادية معقدة، حيث يحتاج إلى استعادة ثقة المجتمع الدولي، تنفيذ إصلاحات اقتصادية حاسمة، وإنقاذ اللبنانيين من واحدة من أسوأ الأزمات في تاريخ البلاد.
لكن يبقى السؤال الأهم، هل يستطيع الرئيس الجديد تجاوز العقبات السياسية التي عرقلت الإصلاحات السابقة،
وهل سيتمكن من تأمين دعم دولي للبنان رغم الشروط الصارمة للمؤسسات المانحة؟
في ظل هذه التحديات، سيكون على لبنان اتخاذ قرارات جريئة وإصلاحات حقيقية، وإلا فإن الأزمة ستستمر لسنوات قادمة، مما يعمّق من معاناة اللبنانيين.
يقول طلال العلي، الخبير الاقتصادي في شؤون الشرق الأوسط، “التحدي الأكبر أمام جوزف عون ليس فقط تنفيذ الإصلاحات، بل القدرة على حشد توافق سياسي حولها. لبنان بحاجة إلى قيادة تستطيع اتخاذ قرارات مؤلمة، لكن السؤال: هل يمتلك عون هذه القدرة؟ أم أن العراقيل السياسية ستدفعه إلى تبني حلول مؤقتة لا تعالج المشكلة جذريًا؟”
اللبنانيون اليوم أمام مرحلة مفصلية، فإما أن ينجح الرئيس الجديد في تفكيك الألغام الاقتصادية التي تهدد البلاد، وإعادة لبنان إلى مسار الاستقرار المالي، أو أن تتحول الأزمة الحالية إلى واقع دائم يجعل الانهيار المالي أمرًا لا رجعة فيه.
يقول إيلي كرم، أستاذ الاقتصاد في الجامعة اليسوعية في بيروت، “إذا لم يتحرك لبنان سريعًا لإعادة هيكلة اقتصاده، فإن السنوات المقبلة ستكون كارثية. نحن أمام فرصة أخيرة، وإذا لم نغتنمها، فإن البلاد ستدخل في دوامة أعمق من الفقر والتدهور الاقتصادي.”
في نهاية المطاف، يبقى الحل مرهونًا بالإرادة السياسية، وبقدرة الحكومة الجديدة على مواجهة الضغوط الداخلية والخارجية. فإما أن يكون عهد جوزف عون بداية جديدة للبنان، أو مجرد استمرار في مسلسل الأزمات والانهيارات المتتالية.