Spread the love

لماذا لا تزال بيئات العمل في العالم العربي مليئة بالتحرش والصمت الإجباري على الانتهاكات؟ كيف يمكن للمرأة أن تحقق استقلالها الاقتصادي إذا كانت أماكن العمل نفسها تحاصرها بالخوف والتعديات المستمرة؟ هل تكفي القوانين لحماية النساء من التحرش في بيئات العمل، أم أن المشكلة أعمق من مجرد نصوص قانونية غير مفعّلة؟

رغم أن العديد من الدول العربية بدأت في سنّ قوانين لمكافحة التحرش الجنسي، إلا أن تطبيقها لا يزال ضعيفًا، حيث تواجه النساء صعوبات كبيرة في إثبات تعرضهن للتحرش أو في الحصول على العدالة. تقرير صادر عن هيئة الأمم المتحدة للمرأة عام 2023 أشار إلى أن 55% من النساء العاملات في المنطقة العربية تعرضن لنوع من أنواع التحرش في بيئة العمل، لكن أقل من 10% منهن قمن بالتبليغ، إما خوفًا من فقدان الوظيفة، أو بسبب عدم الثقة في آليات المحاسبة القانونية.

في بعض الدول، لا تزال المؤسسات تتعامل مع التحرش على أنه “مشكلة فردية” وليس ظاهرة ممنهجة، مما يجعل النساء غير قادرات على المطالبة بحقوقهن. في مصر، رغم وجود قانون يجرّم التحرش، إلا أن النساء اللواتي يتقدمن ببلاغات يواجهن ضغوطًا اجتماعية ومهنية تدفعهن إلى التراجع. في المغرب، تشير تقارير إلى أن بعض النساء يتعرضن للتحرش ليس فقط من زملائهن، بل حتى من أرباب العمل أنفسهم، مما يجعلهن في موقف ضعيف تمامًا.

توضح المحامية التونسية لمياء الحداد، المختصة في قضايا العنف الجندري، أن التحرش في أماكن العمل لا يرتبط فقط بالسلوكيات الجسدية الصريحة، بل يشمل أيضًا المضايقات اللفظية، والإيحاءات الجنسية، والممارسات التي تخلق بيئة عمل غير آمنة للمرأة. المشكلة ليست فقط في القوانين، بل في غياب ثقافة محاسبة حقيقية تجعل المتحرشين يدفعون ثمن أفعالهم.

الضغط النفسي: كيف يُجبر النساء على الصمت؟

حتى عندما تكون القوانين واضحة، تواجه النساء معضلة أخرى، وهي الضغط النفسي والمجتمعي الذي يجعلهن يتجنبن الحديث عن التحرش. الخوف من أن يتم لومهن على ما حدث، أو أن يُنظر إليهن على أنهن “المذنبات”، يجعل الكثيرات يخترن التكيف مع الأوضاع بدلًا من مواجهتها.

في بعض الشركات، يتم استخدام أسلوب “الإقصاء الصامت”، حيث تُهمّش الموظفة التي تجرؤ على الشكوى، ويتم تجاهل ترقياتها أو دفعها إلى الاستقالة. في الأردن، كشفت دراسة أعدها مركز دراسات المرأة أن النساء اللواتي يتعرضن للتحرش في أماكن العمل غالبًا ما يخترن ترك وظائفهن، بدلًا من مواجهة الضغوط التي تتبع تقديم الشكاوى.

تقول الأخصائية النفسية اللبنانية نادية الشامي إن النساء اللواتي يتعرضن للتحرش في أماكن العمل يعانين من آثار نفسية طويلة الأمد، حيث يشعرن بالخوف وانعدام الأمان، مما يؤثر على ثقتهن بأنفسهن وقدرتهن على التطور المهني. المشكلة ليست فقط في حدوث التحرش، بل في أن الضحايا يُجبرن على تحمّل العواقب بدلًا من الجناة.

رغم أن العديد من الدول العربية أقرّت قوانين تجرّم التحرش الجنسي، إلا أن المشكلة الكبرى تظلّ في آليات التنفيذ. في بعض الحالات، تحتاج الضحية إلى أدلة مادية قوية لإثبات التحرش، وهو أمر يكاد يكون مستحيلًا في ظل غياب شهود أو أدلة واضحة. في بعض الدول، مثل العراق والسودان، لا تزال القوانين غير كافية لحماية النساء، حيث يتم التعامل مع التحرش أحيانًا على أنه “مخالفة أخلاقية” بدلًا من كونه جريمة يعاقب عليها القانون.

في السعودية، ورغم التطورات القانونية التي شهدتها البلاد في مجال حقوق المرأة، لا تزال هناك صعوبات في إثبات قضايا التحرش، حيث تواجه الضحايا تحديات في التبليغ عن رؤسائهن في العمل، خاصة إذا كان المتحرش يتمتع بنفوذ قوي داخل المؤسسة. في الجزائر، ورغم وجود قانون يعاقب على التحرش الجنسي، إلا أن العقوبات في بعض الحالات لا تتجاوز الغرامة المالية، مما لا يشكل رادعًا حقيقيًا.

تقول الباحثة القانونية المغربية سارة بن جلون إن القوانين وحدها لا تكفي إذا لم تكن هناك آليات واضحة تضمن تنفيذها بشكل فعال. في كثير من الحالات، تكون المشكلة في أن النساء لا يثقن في النظام القانوني، لأنهن يعرفن أن القضايا قد تستمر لسنوات، أو أنهن سيتعرضن للانتقام المهني والاجتماعي إذا قررن التبليغ.

كيف يمكن خلق بيئة عمل آمنة للنساء؟

لضمان حماية النساء في أماكن العمل، يجب اتخاذ عدة خطوات عملية، تبدأ بتعزيز آليات الإبلاغ عن التحرش، بحيث تكون سرية وآمنة، وتضمن عدم تعرض الضحية لأي نوع من الانتقام. يجب على المؤسسات أن تتبنى سياسات صارمة تفرض عقوبات واضحة على المتحرشين، بدلًا من التستر عليهم أو الاكتفاء بتحذير شفهي.

التدريب والتوعية داخل الشركات أمر بالغ الأهمية، حيث يجب أن يتم تثقيف الموظفين حول مفهوم التحرش وحدوده، بحيث لا يكون هناك مجال للالتباس أو الأعذار. بعض الشركات العالمية بدأت في تطبيق برامج تدريبية حول بيئة العمل الآمنة، لكن هذا النموذج لا يزال غائبًا في معظم الدول العربية.

من الضروري أيضًا توفير دعم نفسي وقانوني للنساء اللواتي يتعرضن للتحرش، بحيث لا يشعرن بأنهن وحيدات في مواجهة هذا العنف. يجب أن يكون هناك مراكز متخصصة تقدم استشارات قانونية مجانية للنساء، وتساعدهن على معرفة حقوقهن وكيفية المطالبة بها دون خوف من العواقب.

الخبير في شؤون العمل الأردني كريم العوضي يرى أن تغيير بيئة العمل بحيث تصبح أكثر أمانًا للنساء يتطلب إرادة سياسية وتشريعية حقيقية، وليس مجرد قوانين شكلية لا يتم تفعيلها. التحرش ليس مجرد مشكلة فردية، بل هو جزء من ثقافة ذكورية تحتاج إلى تفكيك، وإعادة بناء بيئة عمل قائمة على الاحترام والمساواة.

بين ضعف القوانين، والضغوط الاجتماعية، وانعدام الآليات الفعالة لحماية الضحايا، لا تزال بيئات العمل في العالم العربي غير آمنة للنساء، حيث يتوجب عليهن التأقلم مع العنف بدلًا من مقاومته.

السؤال الذي يظل معلقًا: هل ستتمكن النساء في العالم العربي يومًا ما من العمل في بيئات خالية من الخوف والانتهاك، أم أن التحرش سيظلّ جزءًا من يوميات المرأة العاملة، في ظل صمت المجتمع وتواطؤ القوانين؟

error: Content is protected !!