Spread the love

لطالما شكلت إفريقيا إحدى الركائز الأساسية للسياسة الخارجية الفرنسية، حيث كانت مستعمراتها السابقة بمثابة الامتداد الطبيعي لنفوذها السياسي والاقتصادي. لكن السنوات الأخيرة شهدت تآكلًا واضحًا لهذا النفوذ، وسط تصاعد المشاعر المناهضة لفرنسا في العديد من الدول الإفريقية، واتجاه حكومات أفريقية نحو البحث عن شراكات بديلة، سواء مع الولايات المتحدة، الصين، روسيا، أو حتى قوى أوروبية أخرى مثل ألمانيا.

تقرير برلماني فرنسي صدر مؤخرًا ألقى الضوء على هذا التراجع، محمّلًا القيادات الفرنسية، منذ تسعينيات القرن الماضي وحتى اليوم، مسؤولية فقدان السيطرة على إفريقيا، حيث أكد أن عدم وجود استراتيجية واضحة في التعامل مع القارة، إلى جانب قرارات متناقضة وغير مدروسة، أسهما في تراجع المكانة الفرنسية لصالح لاعبين آخرين.

التقرير، الذي أعده البرلمانيان الفرنسيان برونو فوش وميشيل تابارو، اعتبر أن السياسة الفرنسية في إفريقيا باتت قائمة على غياب رؤية استراتيجية متماسكة، وتخبط في اتخاذ القرارات، وانقطاع في التواصل مع النخب الإفريقية. وأوضح أن الخطاب الذي ألقاه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في واغادوغو عام 2017، والذي تعهد فيه بتبني سياسة جديدة تجاه القارة، كان مليئًا بالوعود التي لم تتحقق، مما جعل فرنسا تفقد مصداقيتها بين شركائها الأفارقة.

الدكتور تيسير عبد الجبار، الباحث في العلاقات الدولية، يرى أن “فرنسا فشلت في فهم أن إفريقيا لم تعد تلك القارة التي يمكن إدارتها من باريس، بل أصبحت ساحة تنافس دولي، حيث باتت الدول الإفريقية تمتلك القدرة على اختيار شركائها بناءً على المصالح وليس الإرث الاستعماري”. وأضاف أن “سياسات ماكرون لم تنجح في تغيير نظرة الأفارقة إلى فرنسا، لأنها لم تكن مصحوبة بأفعال ملموسة، بل ظلت مجرد خطابات براقة دون تنفيذ على الأرض”.

الفرنك الإفريقي: رمز الاستعمار الاقتصادي؟

إحدى أبرز القضايا التي يثيرها التقرير تتعلق بالفرنك الإفريقي، العملة التي لا تزال تستخدمها بعض الدول الإفريقية لكنها تُطبع في البنك المركزي الفرنسي وترتبط باليورو، وهو ما يجعله أحد آخر مظاهر السيطرة الفرنسية على اقتصادات مستعمراتها السابقة.

التقرير أشار إلى أن النخب الإفريقية الجديدة باتت تطالب بفك الارتباط بهذه العملة، معتبرة أنها تمثل قيدًا اقتصاديًا على الدول التي تستخدمها. في المقابل، تدعي فرنسا أنها منحت الدول الإفريقية فرصة للتفاوض بشأن إصلاح العملة، لكنها لم تستغل هذه الفرصة.

الباحث عيدي أحمد، المتخصص في الشؤون الإفريقية، يؤكد أن “الفرنك الإفريقي لم يعد مقبولًا في إفريقيا، لأنه يضعف سيادة الدول اقتصاديًا ويجعلها رهينة للسياسات النقدية الفرنسية”. ويرى أن “هذا الملف يمثل أحد أكبر التحديات التي ستواجه باريس في المستقبل، لأنها إن فقدت سيطرتها على العملة، فستفقد جزءًا كبيرًا من نفوذها المالي في القارة”.

صعود قوى جديدة: روسيا والصين والولايات المتحدة تملأ الفراغ

لم يقتصر التراجع الفرنسي على المستعمرات التقليدية، بل شهدت السنوات الأخيرة اختراقًا غير مسبوق لقوى دولية أخرى، حيث أصبحت روسيا تلعب دورًا متزايدًا عبر تدخلاتها العسكرية والدبلوماسية، خاصة من خلال مجموعة فاغنر التي أصبحت بديلاً عن القوات الفرنسية في بعض الدول مثل مالي وبوركينا فاسو.

من جهة أخرى، الصين عززت وجودها الاقتصادي، حيث استثمرت مليارات الدولارات في مشروعات البنية التحتية، ما جعلها شريكًا رئيسيًا للعديد من الحكومات الإفريقية. في المقابل، نجحت الولايات المتحدة وألمانيا في تقديم نفسيهما كشريكين أكثر جدية من فرنسا، مما أدى إلى تآكل النفوذ الفرنسي في المنطقة.

الدكتور أنطوان سميح، الباحث في الشؤون الإفريقية، يرى أن “فرنسا فقدت نفوذها لأن إفريقيا أصبحت سوقًا مفتوحًا، ولم تعد الدول الإفريقية مضطرة للاعتماد على شريك واحد. في الماضي، كان هناك اعتقاد بأن باريس هي الخيار الوحيد، لكن اليوم أصبحت هناك خيارات أخرى أكثر تنوعًا”.

إلى جانب مشكلات فرنسا في دول جنوب الصحراء، شهدت العلاقات مع دول المغرب العربي توترات متزايدة، خاصة بعد سياسة تقليص منح التأشيرات لمواطني المغرب والجزائر وتونس، والتي اعتُبرت بمثابة خطوة مهينة أدت إلى خلق أزمة دبلوماسية لم يكن هناك مبرر لها.

التقرير البرلماني أشار إلى أن هذه السياسة لم تحقق أي نتائج إيجابية، بل على العكس زادت من حالة النفور تجاه فرنسا، ودعمت توجه دول المغرب العربي نحو تنويع شركائها الدوليين، حيث شهدت السنوات الأخيرة تعزيزًا للعلاقات بين الجزائر وروسيا، وبين المغرب والصين والولايات المتحدة.

الدكتورة سمية بن جلول، الباحثة في العلاقات الدولية بجامعة الجزائر، تعتقد أن “فرنسا أخطأت في تعاملها مع دول المغرب العربي، لأنها لم تدرك أن هذه الدول لم تعد مستعدة للقبول بمعاملتها وكأنها تابعة لباريس. اليوم، المغرب والجزائر وتونس لديها علاقات دولية متعددة، ولم تعد بحاجة إلى فرنسا بنفس الشكل التقليدي”.

التقرير أكد أن أحد أكبر المشكلات التي تواجه السياسة الفرنسية في إفريقيا هو تركز عملية صنع القرار في قصر الإليزيه، دون إشراك الجهات الدبلوماسية المتخصصة. فعوضًا عن الاعتماد على السفارات الفرنسية في العواصم الإفريقية لتقديم صورة دقيقة عن الأوضاع، يتم اتخاذ القرارات في باريس بناءً على تصورات قديمة وغير واقعية.

هذا النهج جعل السياسة الفرنسية منفصلة عن الواقع، حيث لم تعد تتناسب مع التحولات الجذرية التي تشهدها إفريقيا. كما أن وزارة الخارجية الفرنسية تعاني من ضعف واضح في قدرتها على فهم التغيرات في القارة، ما جعل قراراتها تأتي متأخرة أو غير فعالة.

هل يمكن لفرنسا استعادة نفوذها في إفريقيا؟

في محاولة لاستعادة دورها، اقترح التقرير عدة خطوات، أبرزها إعادة هيكلة السياسة الفرنسية في القارة، من خلال تعزيز الشراكات الاقتصادية، وإعادة بناء وزارة التعاون التي تم إلغاؤها في عهد نيكولا ساركوزي، إضافة إلى إنشاء خلية خاصة بالشؤون الإفريقية داخل وزارة الخارجية. لكن هذه الاقتراحات تواجه تحديات كبيرة، في ظل الواقع الجديد الذي يجعل إفريقيا أقل ارتباطًا بفرنسا وأكثر انفتاحًا على شركاء جدد.

وتضيف بن جلول أن “فرنسا لم تعد تمتلك الأوراق نفسها التي كانت تمتلكها قبل 20 عامًا، وعليها أن تقبل بحقيقة أن إفريقيا لم تعد تحت وصايتها”. وأضاف أن “المستقبل سيعتمد على قدرة باريس على التكيف مع الواقع الجديد، وإذا لم تفعل، فستستمر في فقدان نفوذها لصالح قوى أخرى”.التغيرات الحاصلة في القارة الإفريقية تؤكد أن فرنسا لم تعد القوة التي كانت عليها في الماضي، حيث أصبحت تواجه منافسة شديدة من قوى دولية أخرى، إضافة إلى تصاعد الرفض الشعبي لها في العديد من الدول الإفريقية. فشل السياسات الفرنسية في التعامل مع القارة أدى إلى تراجع نفوذها، وبات السؤال المطروح الآن: هل ستتمكن باريس من إعادة بناء علاقاتها الإفريقية بأسلوب جديد، أم أن زمن الهيمنة الفرنسية قد انتهى بلا رجعة؟


error: Content is protected !!