يعود الملف النووي الإيراني إلى الواجهة مجدداً، لكن هذه المرة في ظل تصعيد مقلق يثير قلق القوى الغربية، حيث أعلنت فرنسا وألمانيا وبريطانيا—ثلاثي الاتفاق النووي الأوروبي—عن إدانتها للخطوات الإيرانية الأخيرة في تخصيب اليورانيوم وزيادة أعداد أجهزة الطرد المركزي المتقدمة في منشأتي نطنز وفوردو. هذه التحركات تأتي وسط جغرافيا سياسية مضطربة تشمل توترات إقليمية بين إيران وإسرائيل، ومحادثات متعثرة مع واشنطن، وتحولات في مواقف القوى الكبرى تجاه طهران.
تحرك إيران لتوسيع برنامجها النووي عبر إضافة آلاف أجهزة الطرد المركزي المتقدمة يعكس تحولاً واضحاً في استراتيجيتها النووية. هذه الخطوة تشير إلى أحد سيناريوهين رئيسيين، إما ممارسة سياسة الضغط القصوى على الغرب عبر رفع مستوى التخصيب النووي والاقتراب من “العتبة النووية”، بحيث تكتسب القدرة على إنتاج سلاح نووي دون الإعلان عن ذلك رسمياً. أو السعي لامتلاك أوراق تفاوض أقوى في ظل تدهور المفاوضات النووية، خصوصاً مع بوادر عدم جدية واشنطن في تقديم ضمانات طويلة الأجل للاتفاق النووي.
تخصيب اليورانيوم باستخدام أجهزة الطرد المركزي المتطورة يعزز قدرة إيران على إنتاج يورانيوم عالي التخصيب بسرعة أكبر.
وفقاً للوكالة الدولية للطاقة الذرية، تمتلك إيران أكثر من 120 كيلوغراماً من اليورانيوم المخصب بنسبة 60%، وهو ما يكفي نظرياً لتصنيع عدة رؤوس نووية بمجرد رفع التخصيب إلى 90%.
تشغيل منشأة فوردو، وهي موقع نووي محصّن تحت الأرض، يجعل أي عملية استهداف عسكري للمواقع النووية الإيرانية أكثر تعقيداً، حيث صُممت هذه المنشأة لتحمل الضربات الجوية.
البيان الأوروبي يعكس تصاعد مستوى القلق لكنه لا يتضمن تهديدات مباشرة لإيران، ما يشير إلى أن هذه الدول لا تزال تأمل في إعادة إحياء الدبلوماسية مع طهران، رغم خيبة الأمل المتكررة منذ انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي عام 2018.
التحركات الإيرانية تقوض آخر الآمال في إحياء الاتفاق النووي (خطة العمل الشاملة المشتركة JCPOA)، إذ أن تجاوز إيران للحدود المفروضة في الاتفاق يجعل العودة إليه عملية معقدة سياسياً وتقنياً.
الولايات المتحدة تدرك أن التصعيد النووي الإيراني يتطلب رداً حازماً لكنها لا ترغب في مواجهة مباشرة، خاصة في ظل انشغالها بالحرب في أوكرانيا والتوترات مع الصين. الخيار العسكري لا يزال على الطاولة، لكنه سيظل الملاذ الأخير، خاصة وأن تجربة الهجمات الإسرائيلية المتكررة على البنية النووية الإيرانية لم تمنع طهران من التقدم تقنياً.
البيت الأبيض قد يعمد إلى تشديد العقوبات الاقتصادية، وربما الدفع بمزيد من عمليات التخريب السيبراني ضد المنشآت النووية الإيرانية كما حدث في هجوم “ستوكسنت” الشهير عام 2010.
إسرائيل تعد أكثر الأطراف قلقاً من التطورات النووية الإيرانية، حيث تعتبر اقتراب طهران من مستوى التخصيب العسكري (90%) بمثابة تجاوز للخط الأحمر، ما قد يدفعها إلى شن عمليات عسكرية محدودة أو موسعة ضد المنشآت الإيرانية. رغم ذلك، فإن إسرائيل تدرك أن توجيه ضربة استباقية لإيران قد يؤدي إلى رد عسكري واسع النطاق من طهران، وربما إشعال حرب إقليمية تشمل حزب الله في لبنان، والجماعات المسلحة في سوريا والعراق واليمن.
إيران تدرك أن واشنطن لن تتورط في حرب جديدة في الشرق الأوسط، خصوصاً بعد تجربة العراق وأفغانستان، ولهذا تعمل على رفع مستوى التوتر تدريجياً دون تجاوز نقطة اللاعودة. أي مفاوضات مستقبلية مع الغرب ستكون أكثر تعقيداً، حيث تسعى إيران للحصول على ضمانات طويلة الأجل بعد أن فقدت الثقة في الاتفاقيات قصيرة الأمد.
طهران ترى أن إسرائيل والغرب لن يجرؤوا على ضرب منشآتها النووية دون دفع ثمن باهظ، ولذلك تستمر في بناء منشآت تحت الأرض محصنة من الهجمات الجوية. في حال تعرضت لضربة عسكرية، قد ترد عبر ضرب القواعد الأمريكية في العراق وسوريا أو استهداف إسرائيل عبر وكلائها في المنطقة.
سيناريوهات محتملة للمستقبل القريب
إيران ستواصل رفع مستوى التخصيب، مع إبقاء الباب مفتوحاً أمام مفاوضات جديدة وفق شروطها، في ظل غياب ردود حاسمة من الغرب.
قد تلجأ الولايات المتحدة وأوروبا إلى فرض مزيد من العقوبات على إيران، وهو ما قد يدفع طهران للرد عبر تقليص تعاونها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
إسرائيل قد تستهدف منشآت نووية إيرانية عبر عمليات سرية أو غارات جوية محدودة، لكنها ستتجنب هجوماً واسعاً قد يشعل حرباً إقليمية شاملة.
في حال تراجع إيران عن التصعيد قليلاً، قد تشهد الأشهر المقبلة عودة المحادثات، لكن بشروط غربية أكثر تشدداً مقارنة بالاتفاق النووي الأصلي.
العالم يقترب أكثر من مواجهة محتملة بين إيران والغرب، لكنها ليست مواجهة حتمية بعد. إيران تلعب بورقة النووي بحذر، فيما الغرب يحاول احتواء الأزمة دون تصعيد غير محسوب العواقب. لكن مع كل خطوة جديدة تتخذها طهران في التخصيب، يتقلص هامش المناورة السياسية، ويصبح خيار المواجهة أكثر واقعية من أي وقت مضى.
“بعمق” زاوية أسبوعية سياسية تحليلية على “شُبّاك” يكتبها رئيس التحرير: مالك الحافظ