يواصل الاقتصاد التركي مواجهة ضغوط تضخمية حادة، حيث تجاوز معدل التضخم 48% على أساس سنوي في الشهر الماضي، ما يضع الحكومة التركية والبنك المركزي تحت ضغوط متزايدة لتحقيق استقرار الأسعار ومنع المزيد من التآكل في القدرة الشرائية للمواطنين.
وأكد وزير المالية التركي محمد شيمشك أن الحكومة ستقوم بتحديد الأسعار المُدارة بما يتماشى مع مستهدفات خفض التضخم، مشيراً إلى أن السلطات ستتخذ إجراءات صارمة لضبط ارتفاع الأسعار، لكن في المقابل، يرى العديد من الاقتصاديين أن التحديات الهيكلية التي يواجهها الاقتصاد التركي قد تعيق تحقيق أهداف الحكومة في المدى القصير.
ووفقاً لتوقعات البنك المركزي التركي، من المنتظر أن يصل التضخم إلى 44% بنهاية عام 2024، قبل أن ينخفض إلى 21% في عام 2025. ومع ذلك، يشكك العديد من المحللين في إمكانية تحقيق هذه المستويات، خاصة مع استمرار التقلبات في الأسواق المالية، وارتفاع تكاليف الاستيراد، والضغوط المتزايدة على القطاع الخاص.
الحد الأدنى للأجور: توازن صعب بين تحسين الدخل وكبح التضخم
واحدة من أكبر القضايا التي ستختبر قدرة الحكومة على تحقيق التوازن بين العدالة الاجتماعية والاستقرار الاقتصادي هي الزيادة المرتقبة في الحد الأدنى للأجور. ومن المتوقع أن تعلن الحكومة التركية عن زيادة جديدة في الأجور مع بداية العام المقبل، وهو ما قد يكون ضرورياً لحماية العمال من آثار التضخم، لكنه في الوقت ذاته قد يؤدي إلى ارتفاع تكاليف العمالة، وزيادة الضغوط التضخمية، وربما تراجع قدرة الشركات على التوظيف.
ويشير الخبير الاقتصادي أوزغور دمير إلى أن “زيادة الحد الأدنى للأجور ستدعم القوة الشرائية للمواطنين، لكنها قد تؤدي إلى موجة تضخم جديدة إذا لم يتم التحكم في السياسات المالية والنقدية بشكل دقيق”.
ويرى بعض المحللين أن أي زيادة كبيرة في الأجور قد تؤدي إلى زيادة تكلفة الإنتاج، وبالتالي ارتفاع أسعار السلع والخدمات، مما قد يقوض الجهود الحكومية لكبح التضخم. كما أن الشركات، لا سيما الصغيرة والمتوسطة، قد تضطر إلى تقليص التوظيف أو تسريح العمال لتجنب ارتفاع التكاليف التشغيلية.
إلى جانب ارتفاع التضخم، تواجه تركيا أزمة مالية متصاعدة بسبب عجز الميزانية، حيث أعلنت وزارة الخزانة التركية أن العجز بلغ 186.27 مليار ليرة (5.41 مليار دولار) في أكتوبر/تشرين الأول، بينما وصل إجمالي العجز في الأشهر العشرة الأولى من العام إلى 1.26 تريليون ليرة، مما يعكس زيادة الضغوط على المالية العامة للدولة.
أما العجز الأولي، الذي يستثني مدفوعات الفائدة، فقد بلغ 50.05 مليار ليرة في أكتوبر/تشرين الأول، في حين وصل إلى 211.38 مليار ليرة منذ بداية العام. وتشير هذه الأرقام إلى أن تركيا لا تزال تعتمد بشكل كبير على الإنفاق الحكومي في دعم النمو الاقتصادي، وهو ما قد يكون غير مستدام على المدى الطويل، خاصة في ظل ارتفاع تكاليف الاقتراض وانخفاض قيمة الليرة التركية.
ويؤكد المحلل المالي هاكان يلماز أن “ارتفاع العجز المالي يعكس ضعف الإيرادات الحكومية مقارنة بالنفقات، وهو ما قد يجبر الحكومة على رفع الضرائب، أو تقليص بعض برامج الدعم الاجتماعي، أو تقليل الإنفاق على المشروعات العامة”.
هل تتجه تركيا إلى سياسة نقدية أكثر تشدداً؟
تواجه السياسة النقدية التركية تحدياً مزدوجاً: فمن جهة، تحتاج الحكومة إلى السيطرة على التضخم المتصاعد، ومن جهة أخرى، تحتاج إلى تحفيز النمو الاقتصادي. وقد لجأ البنك المركزي التركي في الأشهر الماضية إلى رفع أسعار الفائدة بشكل حاد، مما ساعد جزئياً في كبح التضخم، لكنه في المقابل أدى إلى زيادة تكاليف الاقتراض وتباطؤ النشاط الاقتصادي.
ويشير الخبير الاقتصادي إردال قره أوغلو إلى أن “السياسة النقدية التركية تمر بمرحلة دقيقة، حيث أن أي رفع إضافي لأسعار الفائدة قد يؤدي إلى تباطؤ اقتصادي حاد، بينما التراخي في السياسات النقدية قد يعيد التضخم إلى مساره التصاعدي”.
في المقابل، تحاول الحكومة التركية التركيز على جذب الاستثمارات الأجنبية وتعزيز الاحتياطات النقدية لدعم استقرار العملة المحلية، حيث تم اتخاذ إجراءات مثل تشديد الرقابة على سوق الصرف، وفرض مزيد من القيود على تحويلات العملات الأجنبية، إلا أن التأثيرات طويلة الأجل لهذه السياسات لا تزال غير واضحة.
مع استمرار هذه التحديات، يظل مستقبل الاقتصاد التركي مرهوناً بقدرة الحكومة على تحقيق توازن دقيق بين ضبط التضخم، وتحفيز الاستثمار، وتقليل عجز الميزانية. ويرى بعض المحللين أن العام المقبل قد يكون عام الاختبار الحقيقي لنجاح الإصلاحات الاقتصادية، حيث أن أي تباطؤ في وتيرة خفض التضخم قد يؤدي إلى أزمة جديدة في ثقة المستثمرين، بينما أي ضغط على السيولة المالية قد يؤدي إلى موجة جديدة من التقشف الاقتصادي.
ويشير الخبير المالي إبراهيم ألتون إلى أن “الاقتصاد التركي يحتاج إلى استراتيجية متوازنة بين ضبط الأسواق المالية وتعزيز الإنفاق على البنية التحتية، خاصة أن الإنفاق الحكومي المفرط في ظل ضعف الإيرادات قد يؤدي إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية على المدى الطويل”.
هل ستنجح تركيا في تحقيق الاستقرار الاقتصادي؟
في ظل هذه التحديات، يبقى السؤال الأساسي: هل تستطيع تركيا تحقيق الاستقرار المالي وخفض التضخم دون الإضرار بالنمو الاقتصادي؟
تشير بعض التوقعات إلى أن تحقيق هذا الهدف قد يكون صعباً دون إعادة هيكلة جذرية للسياسات الاقتصادية، بما يشمل: تعزيز الإنتاج المحلي لتقليل الاعتماد على الاستيراد وخفض الضغوط التضخمية، وإصلاح سوق العمل لتجنب تأثير رفع الأجور على معدلات البطالة، وتوسيع القاعدة الضريبية دون فرض ضرائب جديدة تزيد من الضغوط على المستهلكين، واستمرار جذب الاستثمارات الأجنبية لدعم الاحتياطيات النقدية وتحقيق استقرار العملة.
ويبقى التحدي الأكبر أمام إدارة الرئيس رجب طيب أردوغان ووزير المالية محمد شيمشك هو تحقيق هذه الأهداف في ظل بيئة اقتصادية عالمية غير مستقرة، حيث أن أي تغييرات مفاجئة في الأسواق المالية الدولية، أو عودة التوترات الجيوسياسية، قد تعيد الاقتصاد التركي إلى دائرة الأزمات المالية.
وبينما تسعى الحكومة لإعادة الثقة إلى الأسواق، يبقى الاقتصاد التركي في وضع حرج، حيث أن أي خطأ في إدارة السياسات الاقتصادية قد يؤدي إلى ارتفاع الديون، وتراجع النمو، وزيادة الضغوط التضخمية مجدداً.
ويبقى السؤال الأهم: هل ستكون 2025 سنة الانتعاش الاقتصادي لتركيا، أم أن التحديات المالية ستدفع البلاد إلى أزمة جديدة قد تعيد تشكيل سياساتها الاقتصادية بالكامل؟