تمثل العلاقات السعودية القطرية واحدة من أبرز النماذج على التحولات الجيوسياسية في منطقة الخليج، حيث تعكس حالة من التوازن بين المصالح الاستراتيجية والواقع المتغير في النظام الإقليمي. اجتماع اللجنة التنفيذية لمجلس التنسيق السعودي القطري في الرياض ليس مجرد لقاء دبلوماسي روتيني، بل هو خطوة تعكس الإرادة السياسية لدى الطرفين لتعزيز التعاون والتكامل في مرحلة ما بعد الأزمة الخليجية.
الاجتماع الذي ترأسه وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان ورئيس الوزراء القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، جاء في توقيت حساس يفرض على البلدين ضرورة ترسيخ التنسيق الثنائي في ظل المتغيرات الإقليمية والدولية المتسارعة. حديث ابن فرحان عن أن هذا المجلس يمثل “منصة تعمل على تأطير الأعمال في جميع المجالات” ليس تصريحاً بروتوكولياً، بل يعكس وعياً بأهمية الانتقال من مرحلة المصالحة إلى مرحلة البناء المشترك لمصالح استراتيجية طويلة الأمد، لا تقتصر على المجال الاقتصادي فقط، بل تمتد إلى التنسيق السياسي والدفاعي وحتى الثقافي والتنموي.
اللافت في تصريحات المسؤولين السعوديين والقطريين هو التأكيد على التلاقي في الرؤى المستقبلية، وخصوصاً فيما يتعلق برؤية 2030 لكل من البلدين، والتي تعد نموذجاً لمشاريع تنموية طموحة تهدف إلى تنويع مصادر الدخل وتقليل الاعتماد على النفط، وهو ما يفتح الباب أمام مشاريع استثمارية مشتركة وتعاون اقتصادي أعمق. لكن السؤال المطروح هنا: هل يمكن لهذا التعاون أن يرتقي إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية، أم أنه سيظل محكوماً بحسابات المصالح الآنية؟
في هذا السياق، يمكن قراءة هذا الاجتماع في إطار أوسع يرتبط بالتوجه العام في الخليج نحو تخفيف التوترات الداخلية وتعزيز التعاون، خاصة مع تزايد الضغوط الدولية على دول المنطقة لاتباع سياسات أكثر استقراراً. في السنوات الأخيرة، شهدت العلاقات السعودية القطرية تحولاً لافتاً من القطيعة إلى التنسيق المشترك، مدفوعاً بعدة عوامل، من بينها الحاجة إلى بناء جبهة خليجية موحدة في مواجهة التحديات الأمنية، خاصة مع التصعيد المستمر في الخليج، وارتفاع مستوى التنافس الدولي على النفوذ في المنطقة، إضافة إلى الحاجة الملحة لتحقيق استقرار اقتصادي يدعم مشاريع التنمية الوطنية الكبرى.
لكن في المقابل، يظل هذا التقارب محكوماً بعوامل قد تحدد مداه الحقيقي. فعلى الرغم من الخطاب الإيجابي، لا تزال هناك قضايا حساسة يمكن أن تؤثر على مستوى التعاون، مثل التباينات في بعض الملفات الإقليمية، وخصوصاً العلاقة مع إيران وتركيا، حيث تتباين أولويات الرياض والدوحة، وإن كان هناك حرص واضح على تجنب التصعيد حول هذه الملفات. كما أن العلاقة مع القوى الكبرى، خاصة الولايات المتحدة والصين، تلعب دوراً في تحديد مسار هذا التعاون، إذ تحاول كل من السعودية وقطر تعزيز موقعيهما في النظام الدولي بطريقة تحقق أكبر قدر من الاستقلالية في القرار.
إضافة إلى البعد السياسي، فإن تعزيز العلاقات السعودية القطرية يحمل بُعداً اقتصادياً مهماً، إذ أن الاستثمارات المشتركة، وفتح الأسواق أمام الشركات القطرية والسعودية، وتعزيز التعاون في قطاعات الطاقة والسياحة والتكنولوجيا، تعد ملفات ذات أولوية في المرحلة المقبلة. وهنا، يبرز تحدي تحويل هذه الطموحات إلى مشاريع واقعية تعزز التكامل الاقتصادي بين البلدين بدلاً من الاقتصار على تفاهمات سياسية لا تمتد إلى مستويات أعمق.
إرسال أمير قطر رسالة خطية لولي العهد السعودي قبل أسابيع من الاجتماع يؤكد أن هذا التنسيق ليس مجرد خطوة بروتوكولية، بل هو تعبير عن رغبة جادة في استمرار التحسن في العلاقات بين البلدين. كما أن الاجتماع التنفيذي لمجلس التنسيق السعودي القطري يعكس نهجاً جديداً في إدارة العلاقات الخليجية يقوم على تعزيز المصالح المشتركة بدلاً من التركيز على الخلافات السابقة.
مع ذلك، فإن نجاح هذا المسار سيعتمد على مدى القدرة على تجاوز التحديات المرتبطة بالماضي، والانتقال إلى بناء شراكات استراتيجية تتجاوز الحسابات الظرفية. وإذا ما استطاع الطرفان تحقيق تقدم حقيقي في التعاون الاقتصادي والاستثماري، فإن ذلك سيؤدي إلى ترسيخ مرحلة جديدة في العلاقات الخليجية، حيث تصبح المصالح المشتركة هي الضامن الرئيسي للاستقرار، وليس مجرد تفاهمات سياسية يمكن أن تتغير بتغير الظروف الإقليمية.
بالتالي، فإن ما يحدث اليوم بين الرياض والدوحة ليس مجرد مرحلة جديدة من المصالحة، بل هو اختبار لقدرة البلدين على بناء علاقة مؤسسية قادرة على الصمود أمام التحولات المتسارعة في المشهد الإقليمي والدولي. وإذا ما نجحت السعودية وقطر في جعل مجلس التنسيق منصة فاعلة لتحقيق مشاريع استراتيجية كبرى، فإن ذلك لن يعزز فقط العلاقات الثنائية، بل سيشكل أيضاً نموذجاً لما يمكن أن تكون عليه العلاقات الخليجية في المستقبل.
“بعمق” زاوية أسبوعية سياسية تحليلية على “شُبّاك” يكتبها رئيس التحرير: مالك الحافظ