يمثل إقرار البرلمان الروسي لقانون يسمح بتعليق حظر التنظيمات المصنفة إرهابية خطوة استراتيجية تحمل دلالات أعمق من مجرد تغيير في السياسات الداخلية. فروسيا، التي ظلت لعقود تتبنى موقفاً صارماً تجاه الجماعات الإسلامية المسلحة، تجد نفسها اليوم أمام واقع جديد يتطلب إعادة تموضع تكتيكي لمواءمة التحولات الجيوسياسية، سواء في أفغانستان مع طالبان أو في سوريا بعد الإطاحة ببشار الأسد.
يأتي هذا القرار في وقت تتزايد فيه الضغوط على موسكو من جبهات متعددة، بدءاً من الحرب في أوكرانيا وصولاً إلى التوترات المتصاعدة مع الغرب. لذلك، فإن انفتاح الكرملين على طالبان يعكس محاولة لاستغلال الفراغ الذي تركته الولايات المتحدة بعد انسحابها الفوضوي من أفغانستان عام 2021. فبعد أكثر من عقدين من تصنيف طالبان كعدو، تحولت الحركة في خطاب الكرملين إلى “حليف” في مكافحة الإرهاب، وهو تحول لم يكن ممكناً لولا الإدراك الروسي بأن أفغانستان تحت حكم طالبان قد تشكل ورقة استراتيجية في معادلة النفوذ الإقليمي.
الاعتبارات الروسية هنا ليست فقط أمنية، بل اقتصادية أيضاً. فروسيا، التي تعاني من عقوبات غربية متزايدة، تسعى إلى توسيع نفوذها التجاري والسياسي عبر أسواق بديلة، وأفغانستان قد تكون بوابة رئيسية للوصول إلى جنوب آسيا، وخصوصاً عبر مشاريع الطاقة والبنية التحتية. كما أن تعزيز العلاقات مع طالبان يتيح لموسكو دوراً أكبر في صياغة مستقبل آسيا الوسطى، وهي منطقة حيوية للأمن القومي الروسي.
أما فيما يخص سوريا، فإن دعوة رئيس الشيشان رمضان قديروف لرفع هيئة تحرير الشام من قائمة التنظيمات الإرهابية، في أعقاب الإطاحة ببشار الأسد، تعكس تطوراً مثيراً للاهتمام. فمنذ تدخلها العسكري في سوريا عام 2015، كانت روسيا الحليف الأساسي للنظام السوري، لكن سقوط الأسد قلب الطاولة على المعادلة التي استندت إليها موسكو طيلة السنوات الماضية. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل تسعى روسيا لإعادة التموضع داخل سوريا بعد سقوط حليفها القديم، أم أنها تحاول احتواء القوى الجديدة لمنع وقوع سوريا في الفلك الأمريكي؟
في هذا السياق، يمكن قراءة تحركات موسكو في سوريا من زاويتين: الأولى هي الضرورة الواقعية، إذ لا يمكن لروسيا أن تظل معزولة في سوريا بعد الإطاحة بالنظام الذي دافعت عنه لسنوات، وبالتالي فإن التكيف مع الوضع الجديد من خلال الانفتاح على الفاعلين الجدد قد يكون خياراً إجبارياً أكثر منه رغبة حقيقية. أما الزاوية الثانية، فهي محاولة موسكو الاستفادة من التجربة الأفغانية، حيث أدركت أن القوى الإسلامية المتشددة يمكن أن تصبح شركاء مرحليين إذا تم توظيفهم ضمن معادلة المصالح الروسية.
لكن هذا التوجه يحمل مخاطر كبيرة، فمن جهة، قد يؤدي إلى تصعيد التوترات مع إيران، التي لا تزال ترى في هيئة تحرير الشام تهديداً مباشراً لنفوذها في سوريا. كما أن هذه الخطوة قد تثير قلق العديد من الدول العربية، التي لم تنظر يوماً بعين الرضا إلى أي دور روسي داعم للجماعات الإسلامية المسلحة.
إن التحول الروسي في التعامل مع الجماعات التي كانت تُصنف سابقاً كإرهابية يفتح الباب أمام نقاش أوسع حول مرونة موسكو في إعادة صياغة تحالفاتها وفقاً للواقع الميداني. فقبول طالبان كـ “حليف” في مكافحة الإرهاب لا يعني فقط تطبيعاً تدريجياً معها، بل يشير إلى إدراك روسيا أن التعامل مع القوى الفاعلة على الأرض، بغض النظر عن تاريخها، قد يكون أكثر نفعاً من العزلة الدبلوماسية أو الاستمرار في دعم أنظمة منهارة.
اللافت أن هذا التوجه لا يقتصر على أفغانستان، بل يمتد إلى سوريا أيضاً، حيث تبحث موسكو عن موطئ قدم جديد بعد سقوط الأسد. ومع أن رفع هيئة تحرير الشام من قائمة الإرهاب قد يبدو خطوة صادمة نظراً لخلفية الجماعة المتشددة، إلا أن روسيا قد تراها أداة لاستمالة الفصائل العسكرية هناك لضمان بقاء وجودها في المنطقة.
يبقى السؤال الأهم: هل هذه التحولات ستؤدي إلى استقرار أم إلى مزيد من التعقيد؟ فروسيا قد تراهن على البراغماتية، لكن التعامل مع جماعات ذات توجهات أيديولوجية متشددة يظل محفوفاً بالمخاطر، خاصة إذا خرجت هذه الجماعات عن السيطرة أو دخلت في تحالفات غير متوقعة تؤثر على المصالح الروسية مستقبلاً.
بالمجمل، فإن روسيا اليوم تواجه معادلة معقدة بين السعي للحفاظ على مصالحها في سوريا وأفغانستان، وبين تجنب استعداء حلفائها التقليديين. وقرار تعليق حظر التنظيمات الإرهابية قد يكون مجرد البداية لسلسلة من التغييرات في السياسة الخارجية الروسية، والتي ستعتمد في النهاية على مدى قدرة الكرملين على تحقيق التوازن بين البراغماتية والمخاطر الاستراتيجية في هذه المناطق المضطربة.
“بعمق” زاوية أسبوعية سياسية تحليلية على “شُبّاك” يكتبها رئيس التحرير: مالك الحافظ