تحت وطأة التغيرات المناخية المتسارعة، تتعرض الأراضي العربية لواحدة من أسوأ الأزمات البيئية في التاريخ الحديث، حيث يهدد الجفاف والتصحر ملايين الهكتارات من الأراضي الزراعية، ويضع الأمن الغذائي والمائي في المنطقة أمام مستقبل مجهول. من العراق إلى المغرب، ومن السودان إلى الأردن، تتآكل التربة الخصبة، وتنخفض معدلات الأمطار، ويزداد الضغط على الموارد المائية التي كانت تشكل العمود الفقري للزراعة والحياة. وبينما يزداد الحديث عن حلول ممكنة، يبدو أن العديد من الدول لا تزال تتعامل مع الأزمة وكأنها خطر بعيد، رغم أن المؤشرات تؤكد أنها أصبحت واقعاً حاضراً لا يمكن تجاهله.
تشير تقارير “منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة” (الفاو) إلى أن أكثر من 70% من الأراضي الزراعية في العالم العربي مهددة بالتصحر، مع فقدان ما يقارب 1.5 مليون هكتار سنوياً بسبب الجفاف والتملح وفقدان الغطاء النباتي. الأوضاع تبدو أكثر كارثية في بعض الدول، حيث يكشف تقرير للبنك الدولي عام 2023 أن العراق فقد أكثر من 40% من أراضيه الصالحة للزراعة خلال العقود الثلاثة الماضية، نتيجة لتراجع تدفق نهري دجلة والفرات، وارتفاع درجات الحرارة التي تؤدي إلى تبخر كميات هائلة من المياه السطحية.
في المغرب، تشير الإحصاءات إلى أن البلاد فقدت 35% من مواردها المائية المتجددة منذ عام 1980، في حين أن مستويات الأمطار تراجعت بنسبة 20% خلال العقدين الماضيين. أما في السودان، فقد أدت موجات الجفاف إلى تقليل الإنتاج الزراعي بنسبة 50%، مما تسبب في تفاقم أزمة الأمن الغذائي في بلد يعتمد معظم سكانه على الزراعة لكسب العيش.
يقول الدكتور أحمد منصور، أستاذ الجغرافيا البيئية بجامعة اليرموك، إن “الجفاف لم يعد مجرد احتمال مستقبلي، بل أصبح حقيقة قائمة تؤثر على حياة الملايين في العالم العربي. المشكلة لا تقتصر فقط على ندرة الأمطار، بل أيضاً على سوء إدارة الموارد المائية، وغياب استراتيجيات طويلة الأمد لمواجهة التغير المناخي”. ويؤكد أن “استمرار الوضع على ما هو عليه سيؤدي إلى فقدان المزيد من الأراضي الصالحة للزراعة، وزيادة الهجرة البيئية، وارتفاع معدلات الفقر في المجتمعات الريفية”.
التغير المناخي وإعادة تشكيل خريطة المياه في المنطقة
يُعد التغير المناخي أحد العوامل الرئيسية التي تساهم في تفاقم أزمة الجفاف، حيث تتسبب درجات الحرارة المرتفعة في زيادة معدلات التبخر، وتغيير أنماط هطول الأمطار، ما يجعل بعض المناطق أكثر جفافاً وأقل قدرة على دعم الزراعة التقليدية.
تشير تقارير “الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ” إلى أن منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا شهدت ارتفاعاً في متوسط درجات الحرارة بمقدار 1.5 درجة مئوية منذ عام 1980، مقارنة بمتوسط عالمي يبلغ 1.1 درجة. هذا الارتفاع في درجات الحرارة، مقترناً بتراجع معدلات الأمطار، أدى إلى تراجع منسوب المياه الجوفية، ما أجبر المزارعين في العديد من المناطق على التخلي عن أراضيهم والهجرة إلى المدن.
في اليمن، حيث يعتمد أكثر من نصف السكان على الزراعة، أدت موجات الجفاف المتكررة إلى نزوح آلاف العائلات من المناطق الزراعية إلى المدن بحثاً عن فرص عمل بديلة، في ظل نقص حاد في المياه وانخفاض إنتاج المحاصيل الأساسية مثل القمح والذرة. الدكتور جمال فخري، الباحث في المناخ والبيئة بجامعة الخرطوم، يرى أن “الاحتباس الحراري يغير بشكل جذري موازين الموارد المائية في المنطقة، حيث نشهد جفافاً في المناطق التي كانت تعتمد على الأمطار، وزيادة في الفيضانات في مناطق أخرى، مما يخلق تحديات جديدة في إدارة المياه”.
على الرغم من خطورة الأزمة، لا تزال استجابات الحكومات العربية متباينة، حيث تركز بعض الدول على حلول مؤقتة مثل بناء السدود، بينما تحاول دول أخرى تبني سياسات أكثر استدامة. في السعودية، تم إطلاق مشاريع لتحلية مياه البحر وتطوير تقنيات الري الحديثة لتقليل استهلاك المياه في القطاع الزراعي، بينما أطلقت المغرب برنامج “السدود الكبرى” لتخزين المياه في فترات الوفرة وتعزيز قدرة البلاد على مواجهة فترات الجفاف.
لكن رغم هذه الجهود، يرى الدكتور سالم الطرابلسي، الخبير في إدارة الموارد المائية بجامعة تونس، أن “معظم السياسات الحكومية تركز على معالجة الأعراض وليس الأسباب الحقيقية للأزمة”. ويوضح أن “بناء السدود وتحلية المياه قد يوفران حلولاً قصيرة الأمد، لكنهما لا يعالجان المشكلة الأساسية المتمثلة في الاستهلاك غير المستدام للمياه، وغياب استراتيجيات زراعية تتكيف مع التغيرات المناخية”.
البدائل الممكنة: هل يمكن وقف زحف التصحر؟
لمواجهة الأزمة، بدأت بعض الدول في تبني حلول مبتكرة للتعامل مع الجفاف والتصحر. في الإمارات، تم تطوير تقنيات زراعية تعتمد على الري الذكي، الذي يقلل استهلاك المياه بنسبة تصل إلى 50% مقارنة بالأساليب التقليدية. في السودان، بدأت بعض المجتمعات الزراعية باستخدام تقنيات “الزراعة الحافظة”، التي تهدف إلى تقليل حرث التربة للحفاظ على رطوبتها، ما يحد من آثار الجفاف.
لكن الحلول الأكثر طموحاً تأتي من مشاريع إعادة تشجير الأراضي القاحلة، مثل مبادرة “السور الأخضر العظيم” في أفريقيا، التي تهدف إلى زراعة ملايين الأشجار لوقف زحف الصحراء الكبرى جنوباً. رغم أن المشروع لم يحقق نجاحاً كاملاً بسبب نقص التمويل، إلا أنه يمثل نموذجاً لما يمكن تحقيقه إذا توفرت الإرادة السياسية والاستثمارات اللازمة.
لا شك أن الجفاف والتصحر يشكلان تهديداً وجودياً للعالم العربي، لكن التعامل مع الأزمة لا يزال دون المستوى المطلوب. وبينما تستمر الموارد المائية في التراجع، فإن السؤال المطروح اليوم هو: هل تمتلك الحكومات العربية الإرادة الكافية لإحداث تغيير حقيقي، أم أن المنطقة تسير نحو مستقبل تصبح فيه الأراضي الخصبة مجرد ذكرى من الماضي؟ في ظل غياب استراتيجيات واضحة وشاملة، يبقى الخطر قائماً، ويظل ملايين العرب مهددين بفقدان مصادر رزقهم، في معركة لم تحظَ بعد بالاهتمام الكافي من صناع القرار.