Spread the love

كيف يمكن للحركات النسوية في العالم العربي أن تتحول من مجرد حراك اجتماعي إلى قوة سياسية قادرة على إحداث تغيير فعلي في السياسات العامة؟ لماذا لا تزال النساء مستبعدات من دوائر صنع القرار، رغم كل المطالبات بالمساواة والتمكين؟ وهل يمكن أن تؤدي مشاركة النساء في صناعة السياسات إلى تحقيق إصلاحات جوهرية في قضايا الجندر والعدالة الاجتماعية؟

رغم أن النساء يمثلن نصف المجتمع، إلا أن وجودهن في مواقع صنع القرار لا يزال ضعيفًا في معظم الدول العربية. سواء في الحكومات، أو البرلمانات، أو المجالس البلدية، أو حتى في مجالس إدارة الشركات الكبرى، يظلّ الرجال هم المتحكمون في رسم السياسات، بينما يتم التعامل مع النساء كمجرد عنصر تكميلي.

تقرير صادر عن الاتحاد العربي للمرأة والسياسة عام 2023 يشير إلى أن نسبة النساء في المناصب الوزارية في الدول العربية لا تتجاوز 17%، بينما لا تتعدى نسبة النساء في البرلمانات العربية 19%، وهي من أدنى المعدلات عالميًا. حتى عندما تصل النساء إلى مناصب سياسية، فإنهن غالبًا ما يتم تعيينهن في وزارات تُعتبر “تقليدية” للمرأة، مثل الشؤون الاجتماعية أو الثقافة، بينما تظلّ الوزارات السيادية مثل الدفاع والداخلية والاقتصاد حكرًا على الرجال.

الخبيرة السياسية المصرية نهى عبد الغفار ترى أن المشكلة ليست فقط في غياب النساء عن السياسة، بل في أن النظام السياسي نفسه لا يمنحهن فرصًا حقيقية للمشاركة. الأحزاب السياسية في كثير من الدول العربية لا تزال تعمل وفق عقلية ذكورية، حيث يُنظر إلى النساء على أنهن غير مؤهلات لاتخاذ قرارات كبرى، ويتم استخدامهن فقط لتحسين الصورة الإعلامية للحزب. حتى في البرلمانات، غالبًا ما يتم تهميش دور النائبات، ويتم التعامل معهن على أنهن مجرد أصوات داعمة، وليست مؤثرة.

المرأة في الحكومات والبرلمانات: تمثيل شكلي أم دور حقيقي؟

في بعض الدول، تم إدخال قوانين الكوتا النسائية لضمان تمثيل أكبر للمرأة في المجالس التشريعية، لكن هذا لم يؤدِ بالضرورة إلى تغيير جوهري في السياسات. في تونس، حيث تحظى النساء بتمثيل برلماني مرتفع نسبيًا، لا تزال القوانين المتعلقة بالمساواة تواجه مقاومة قوية داخل البرلمان نفسه. في الجزائر، رغم وجود عدد لا بأس به من النساء في الحكومة، إلا أن القرارات الحاسمة لا تزال تُتخذ في دوائر مغلقة يسيطر عليها الرجال. في الأردن، ورغم تخصيص نسبة من المقاعد البرلمانية للنساء، إلا أن وجودهن داخل المجلس لا ينعكس دائمًا على التشريعات المتعلقة بحقوق المرأة.

في بعض الحالات، يتم استخدام النساء في السياسة كأداة لإظهار الانفتاح، دون أن يكون لهن تأثير حقيقي. بعض الحكومات تقوم بتعيين نساء في مناصب وزارية فقط لإرضاء المجتمع الدولي، بينما تظلّ السلطة الفعلية محتكرة من قبل الرجال.

تقول السياسية اللبنانية رُلى الحاج إن تمثيل النساء في الحكومات والبرلمانات لا يعني بالضرورة أنهن قادرات على إحداث تغيير حقيقي. بعض النساء اللواتي يصلن إلى مواقع صنع القرار يتبنين خطابًا محافظًا ينسجم مع العقلية الذكورية السائدة، مما يجعلهن غير قادرات على الدفع بأجندة نسوية حقيقية. المشكلة ليست فقط في العدد، بل في القدرة على التأثير واتخاذ قرارات تخدم قضايا النساء فعليًا.

هل يمكن للنسوية أن تُحدث تغييرًا في السياسات العامة؟

رغم التحديات، إلا أن الحركات النسوية في العالم العربي بدأت في التأثير على النقاش العام حول قضايا المرأة، وهو ما ينعكس تدريجيًا على بعض السياسات. في المغرب، دفعت الحركات النسوية نحو تعديل مدونة الأسرة لضمان مزيد من الحقوق للنساء في الزواج والطلاق. في السعودية، ساهمت الحملات النسوية في إنهاء نظام الولاية الذي كان يفرض قيودًا قانونية كبيرة على النساء. في السودان، لعبت النساء دورًا رئيسيًا في الحراك الثوري، مما أدى إلى إصلاحات قانونية جزئية تتعلق بحقوق المرأة.

لكن رغم هذه النجاحات، لا تزال معظم الإصلاحات التي تحققت محدودة، حيث يتم تفريغها من محتواها أو تطبيقها بشكل جزئي. القوانين التي تم تمريرها لحماية النساء من العنف، مثل قوانين مكافحة التحرش أو تجريم العنف الأسري، لا تزال تواجه عراقيل في التنفيذ، لأن النظام القانوني نفسه يعمل ضمن بيئة ذكورية لا تعطي الأولوية لقضايا النساء.

تقول الباحثة في السياسات العامة التونسية أمل العابد إن الحركات النسوية بحاجة إلى تجاوز مرحلة الاحتجاج والضغط، والانتقال إلى مرحلة أكثر تنظيمًا، حيث تكون قادرة على اقتراح سياسات بديلة، والعمل على الوصول إلى مراكز صنع القرار بدلًا من الاكتفاء بالمطالبة بالإصلاح من الخارج. القوة الحقيقية للحركات النسوية لا تكمن فقط في القدرة على التأثير الإعلامي، بل في خلق تحالفات سياسية تجعل من المساواة قضية مركزية في أي أجندة إصلاحية.

السياسات الاقتصادية: هل النساء جزء من معادلة التنمية؟

إلى جانب التمثيل السياسي، تواجه النساء في العالم العربي تهميشًا اقتصاديًا كبيرًا، حيث لا تزال السياسات الاقتصادية تُصاغ دون مراعاة احتياجات المرأة أو دورها في التنمية. في كثير من الدول، لا توجد سياسات واضحة لدعم النساء في سوق العمل، ولا يزال الاقتصاد قائمًا على رؤية ذكورية ترى أن الرجل هو المعيل الأساسي، بينما يُنظر إلى عمل المرأة على أنه “اختياري”.

في بعض الدول، تم وضع استراتيجيات لزيادة مشاركة النساء في الاقتصاد، لكن هذه الخطط غالبًا ما تظلّ شكلية، دون أن تُترجم إلى إجراءات فعلية. في مصر، تم إطلاق مبادرات لدعم المشروعات الصغيرة التي تديرها النساء، لكن هذه المبادرات لا تزال تواجه صعوبات في التمويل والتنفيذ. في الخليج، حيث ارتفعت نسبة النساء في القوى العاملة، لا تزال الفجوة في الأجور بين الرجال والنساء قائمة، مما يعكس استمرار التمييز الاقتصادي.

الخبير الاقتصادي الأردني مازن الطوالبة يرى أن إدماج النساء في السياسات الاقتصادية لا يجب أن يقتصر على زيادة نسبة توظيفهن، بل يجب أن يشمل أيضًا إصلاحات جذرية في قوانين العمل، مثل توفير بيئات عمل مرنة، وسنّ قوانين تحمي الأمهات العاملات، وضمان المساواة في الأجور. التنمية الحقيقية لا يمكن أن تتحقق إذا ظلت النساء خارج معادلة صنع القرار الاقتصادي.

رغم التقدم الذي تحقق في بعض الدول العربية، لا تزال النساء بعيدات عن دوائر صنع القرار، سواء في السياسة أو الاقتصاد. الإصلاحات القانونية وحدها لا تكفي إذا لم يكن هناك تغيير جذري في العقلية المجتمعية التي ترى في القيادة السياسية والاقتصادية حكرًا على الرجال.

يبقى السؤال مفتوحًا: هل يمكن أن نشهد جيلًا جديدًا من النساء القادرات على التأثير في السياسات العامة، أم أن التغيير سيظلّ بطيئًا، في ظل عقود من التهميش السياسي والاقتصادي الممنهج؟

error: Content is protected !!