الخميس. أكتوبر 17th, 2024

الزواج المبكر بين التقاليد الراسخة وحقوق الطفل المهدورة

الزواج المبكر هو ظاهرة اجتماعية تعكس تداخلات معقدة بين المعتقدات الدينية والتقاليد الثقافية وحقوق الإنسان. في المجتمعات التي تهيمن عليها التقاليد الدينية والعرفية، يُعتبر الزواج المبكر أمرًا مقبولًا بل ومفضلًا أحيانًا. ومع ذلك، فإن هذا القبول الاجتماعي يتعارض بشكل صارخ مع المبادئ الأساسية لحقوق الطفل كما هي مُعترف بها دوليًا. هذا التناقض يثير أسئلة حيوية حول مدى توافق الممارسات الدينية والتقليدية مع حقوق الإنسان، خاصة في ظل التأثيرات السلبية العميقة التي يُمكن أن يتركها الزواج المبكر على الأطفال، وخصوصًا الفتيات. من الضروري هنا أن نفتح حوارًا نقديًا حول هذه الممارسة، ليس فقط من منطلق الحقوق، ولكن أيضًا من منطلق تقييم عميق للأثر الاجتماعي والنفسي والثقافي على الأطفال والمجتمع ككل.

الشرع والزواج المبكر.. قراءة نقدية معمقة

التفسيرات الدينية للزواج المبكر تعتمد غالبًا على نصوص دينية معينة تُستخدم لتبرير هذه الممارسة، حيث يُشير البعض إلى أن الفتاة يمكن أن تتزوج في سن مبكرة بناءً على نصوص شرعية معينة. هذه التفسيرات تجد جذورها في سياقات اجتماعية وتاريخية تعود إلى قرون مضت، عندما كان الزواج في سن مبكرة يُعتبر وسيلة لضمان استمرار الأنساب وحماية الفتيات من الفساد الأخلاقي المزعوم. في تلك العصور، كانت الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية مختلفة بشكل جذري عما هي عليه اليوم، وكان الزواج المبكر يُعتبر من ضرورات البقاء.

ومع ذلك، فإن الواقع الحديث يفرض علينا إعادة تقييم هذه التفسيرات. إن النصوص الدينية ليست مجرد كلمات جامدة تُستخدم خارج سياقها، بل هي نصوص حية تتطلب تأويلاً يتماشى مع تطور الفهم البشري والعلمي. إن الشرع الإسلامي، على سبيل المثال، يعتمد على مقاصد الشريعة التي تهدف إلى تحقيق العدالة والرحمة وحماية الكرامة الإنسانية. من هنا، ينبغي أن تُعاد قراءة النصوص المتعلقة بالزواج المبكر بما يتماشى مع حقوق الطفل والمبادئ الإنسانية الحديثة، مما يتطلب من العلماء الدينيين تبني تفسير أكثر تطورًا ومتسقًا مع متطلبات العصر.

في السنوات الأخيرة، شهدت المنطقة العربية العديد من القضايا التي تسلط الضوء على ظاهرة الزواج المبكر وأثرها السلبي على الفتيات. في عام 2022، أثارت قصة فتاة يمنية تبلغ من العمر 12 عامًا، أُجبرت على الزواج، جدلاً واسعًا بعد أن توفيت جراء مضاعفات الحمل. هذه الحادثة أطلقت موجة من الانتقادات حول استمرار هذه الممارسة في اليمن، حيث تظل القوانين عاجزة عن حماية الفتيات من الزواج المبكر رغم الجهود الدولية والمحلية للحد من هذه الظاهرة.

في الأردن، أظهرت تقارير صادرة عن منظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية أن حالات الزواج المبكر ما زالت مرتفعة، خاصة في المناطق الريفية والمجتمعات الفقيرة. رغم أن القانون الأردني يحدد سن الزواج بـ18 عامًا، إلا أن الاستثناءات القانونية التي تسمح بالزواج في سن 15 تحت ظروف معينة، تُستخدم بشكل مفرط. هذا الوضع دفع نشطاء حقوق الإنسان إلى المطالبة بإلغاء هذه الاستثناءات وتعديل القوانين لتوفير حماية أكبر للفتيات.

إن تجاهل التطور العلمي والمعرفي الذي أظهر المخاطر الجسيمة للزواج المبكر على صحة الفتيات ونموهن النفسي والاجتماعي يُعتبر إخفاقًا في تحقيق المقاصد العليا للشريعة. اليوم، ندرك تمامًا أن الفتاة الصغيرة ليست مؤهلة بيولوجيًا ولا نفسيًا لتحمل مسؤوليات الزواج والأمومة، وأن ذلك يعرضها لمخاطر صحية جسيمة مثل مضاعفات الحمل والولادة المبكرة، بالإضافة إلى التأثيرات النفسية طويلة الأمد التي قد تؤدي إلى اضطرابات عقلية واجتماعية.

د. ليلى عبد الله، أستاذة علم الاجتماع، تعبر خلال حديثها لـ “شُبّاك” عن موقفها الرافض للزواج المبكر من منطلق نقدي للتقاليد والدين، وتقول بأن الزواج المبكر هو ممارسة تعكس استمرارية بنى اجتماعية غير عادلة تكرس التمييز ضد الفتيات، وتعطي الأفضلية للسلطة الذكورية في تقرير مصيرهن. مضيفة بأنه “في المجتمعات التي تُسيطر فيها التقاليد على الحياة اليومية، يُستخدم الشرع في كثير من الأحيان كأداة لتبرير هذه الممارسات. لكن يجب أن نفهم أن هذه التفسيرات الدينية ليست ثابتة، بل هي نتاج لقراءات تاريخية واجتماعية معينة تخدم مصالح فئات محددة. الشرع، كما هو مُفسر اليوم في هذه المجتمعات، يُستخدم كأداة لتعزيز السيطرة الذكورية وإبقاء الفتيات في دائرة التبعية والحرمان.”

النقطة الأهم التي يجب التركيز عليها هي أن الفهم التقليدي للدين لا يأخذ في الاعتبار التطورات الحديثة في مجال حقوق الإنسان. إن تبرير الزواج المبكر بالنصوص الدينية يتجاهل تمامًا السياق العصري الذي نعيش فيه، حيث أصبحنا ندرك تمامًا حقوق الطفل وضرورة حمايته من الاستغلال. إن إعادة تفسير النصوص الدينية بما يتماشى مع المبادئ الحديثة لحقوق الإنسان أمر حتمي لضمان عدم استخدام الدين كأداة للقمع، وفق حديث عبد الله.

يجب أن يُعاد النظر في التقاليد الثقافية والاجتماعية التي تعزز هذه الممارسات. يجب علينا أن نبدأ في بناء مجتمع يحترم حقوق الطفل ويعمل على تمكين الفتيات من خلال التعليم والتوعية، وليس من خلال إغراقهن في أدوار زوجية هن غير مستعدات لها. التغيير يجب أن يبدأ من داخل المجتمع نفسه، بمشاركة فعالة من العلماء الدينيين والمفكرين الاجتماعيين لإعادة تفسير النصوص الدينية بما يتماشى مع الواقع العصري والتزاماتنا تجاه حقوق الإنسان، بحسب أستاذة علم الاجتماع.

التقاليد والثقافة: سلطة التقاليد أم حماية الأطفال؟

التقاليد الثقافية تلعب دورًا كبيرًا في ترسيخ الزواج المبكر كممارسة اجتماعية، خاصة في المجتمعات العشائرية والريفية حيث يُنظر إلى الفتاة الصغيرة على أنها عبء اقتصادي يجب التخلص منه بسرعة. في هذه المجتمعات، يُعتبر الزواج المبكر وسيلة لحماية الفتاة وضمان مستقبلها، ولكن هذه الفكرة مبنية على افتراضات قديمة وغير دقيقة حول دور المرأة في المجتمع.

إن التقاليد الثقافية غالبًا ما تتجاهل حقوق الطفل، وتفرض ضغوطًا اجتماعية هائلة على الفتيات لإجبارهن على قبول الزواج المبكر دون اعتبار لرغبتهن أو قدرتهن على تحمل تبعاته. هذه التقاليد لا ترى في الفتاة إلا كائنًا تابعًا يُحدد مصيره بناءً على ما يراه الآخرون مناسبًا، دون أي اعتبار لاستقلاليتها أو قدرتها على اتخاذ قرارات حياتية مهمة. التمسك الأعمى بهذه التقاليد هو نوع من القمع الاجتماعي الذي يُعزز التمييز ضد النساء ويُبقيهن في دوامة من الفقر والجهل والتبعية.

التحدي الأكبر هنا هو كيفية تغيير هذه التقاليد دون تدمير النسيج الاجتماعي. يجب أن نبدأ بحوار صريح حول آثار هذه الممارسات على الأفراد والمجتمع، مع تقديم بدائل تكون مبنية على تعزيز حقوق الأطفال والفتيات. تعليم الفتيات وتمكينهن من اتخاذ قراراتهن الخاصة يجب أن يكون الهدف الأساسي، وليس مجرد الالتزام بتقاليد بالية تُعرّض حياتهن ومستقبلهن للخطر.

في الأردن، أظهرت تقارير صادرة عن منظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية أن حالات الزواج المبكر ما زالت مرتفعة، خاصة في المناطق الريفية والمجتمعات الفقيرة. رغم أن القانون الأردني يحدد سن الزواج بـ18 عامًا، إلا أن الاستثناءات القانونية التي تسمح بالزواج في سن 15 تحت ظروف معينة، تُستخدم بشكل مفرط. هذا الوضع دفع نشطاء حقوق الإنسان إلى المطالبة بإلغاء هذه الاستثناءات وتعديل القوانين لتوفير حماية أكبر للفتيات.

أما في العراق، تفاقمت ظاهرة الزواج المبكر بشكل ملحوظ بعد الصراعات والنزاعات المسلحة التي شهدتها البلاد. وتشير تقارير صادرة عن الأمم المتحدة إلى أن الفقر وانعدام الأمن دفعا العديد من العائلات إلى تزويج بناتها في سن مبكرة، في محاولة لحمايتهن من المخاطر الاجتماعية والاقتصادية.

ومع ذلك، فإن هذه الزيجات غالبًا ما تؤدي إلى مشاكل اجتماعية وصحية خطيرة، بما في ذلك ارتفاع معدلات العنف الأسري والانقطاع عن التعليم.

وفي مصر، على الرغم من الجهود الحكومية لمكافحة الزواج المبكر، فإن الظاهرة لا تزال منتشرة بشكل كبير في المناطق الريفية والصعيد. حيث أفادت تقارير إعلامية محلية بأن حالات الزواج المبكر في بعض المناطق تصل إلى 17%، مما يثير القلق حول فعالية التدابير الحالية. في هذا السياق، شدد المجلس القومي للطفولة والأمومة على ضرورة تفعيل القوانين وتكثيف حملات التوعية للحد من هذه الممارسة التي تنتهك حقوق الفتيات.

الزواج المبكر انتهاك صارخ

حقوق الطفل هي حقوق عالمية يجب أن تُحترم بغض النظر عن السياق الثقافي أو الديني. اتفاقية حقوق الطفل التي اعتمدتها الأمم المتحدة تُحدد بشكل واضح أن كل طفل يجب أن يتمتع بحماية خاصة من جميع أشكال الاستغلال والإساءة، بما في ذلك الزواج المبكر. ومع ذلك، نجد أن هذه الحقوق تُنتهك بشكل صارخ في المجتمعات التي تُشرع الزواج المبكر كجزء من ثقافتها أو تقاليدها.

الزواج المبكر هو شكل من أشكال الاستغلال الذي يُقوض حقوق الفتيات في التعليم والنمو الشخصي والمشاركة الفعالة في المجتمع. عندما تُجبر الفتاة على الزواج في سن صغيرة، فإنها تُحرم من فرص التعليم، مما يُبقيها في دائرة الفقر ويحد من إمكانياتها المستقبلية. علاوة على ذلك، تُعرض هذه الفتيات لمخاطر صحية خطيرة، بما في ذلك مشاكل صحية مرتبطة بالحمل والولادة المبكرة، مما يؤدي إلى نتائج كارثية على حياتهن وصحتهن.

إن حماية حقوق الطفل تعني أكثر من مجرد منع الزواج المبكر؛ إنها تعني توفير بيئة آمنة تُمكن الأطفال من النمو والتعلم وتحقيق إمكانياتهم الكاملة. وفي هذا السياق، يجب أن تكون الحكومات والمجتمعات على استعداد لاتخاذ إجراءات جادة وحاسمة لحماية الفتيات من الزواج المبكر، بما في ذلك سن قوانين تُجرم هذه الممارسة وتوفر الدعم اللازم للفتيات وأسرهن.

أستاذ الفلسفة الإسلامية، د.عبد الرحمن الحسيني، يعتبر أن الزواج المبكر من القضايا الشائكة التي تحتاج إلى مراجعة شاملة، خصوصًا في ضوء التطورات الفكرية والمعرفية الحديثة. من المعروف أن هناك تفسيرات دينية تُستخدم لتبرير هذه الممارسة، ولكن يجب أن نتساءل عن مدى صحة هذه التفسيرات في السياق العصري الذي نعيشه اليوم. إن الشرع ليس مجرد مجموعة من القوانين الثابتة، بل هو نظام يعتمد على مقاصد عليا، منها حماية حقوق الإنسان وتحقيق العدالة الاجتماعية.

وتابع “عندما نعود إلى النصوص الدينية التي تُستخدم لتبرير الزواج المبكر، نجد أنها غالبًا ما تُقرأ بمعزل عن مقاصد الشريعة التي تهدف إلى حماية الأفراد، وخاصة الفئات الضعيفة في المجتمع مثل الأطفال. الشريعة الإسلامية، في جوهرها، تسعى إلى تحقيق مصلحة الإنسان وحمايته من الأذى، وليس لتبرير الممارسات التي قد تُعرض حياته وصحته للخطر. الزواج المبكر، وفقًا للمعرفة الطبية الحديثة، يُعرض الفتيات لمخاطر صحية جسيمة ويحد من إمكانياتهن المستقبلية في التعليم والنمو الشخصي. هذا يتناقض مع الأهداف العليا للشريعة التي تُشجع على العلم والنمو الإنساني.”

من ناحية أخرى، التقاليد التي تكرس الزواج المبكر تنبع من فهم اجتماعي قديم لا يأخذ في الاعتبار التغيرات الكبيرة التي حدثت في المجتمعات الحديثة. هذه التقاليد تُبقي الفتيات في دائرة مغلقة من الفقر والجهل، وتُحرمهن من فرص تطوير أنفسهن والمساهمة الفعالة في المجتمع. في هذا السياق، يجب أن نعمل على تحديث الفهم الديني والثقافي بما يتماشى مع المعايير الحديثة لحقوق الإنسان. من الضروري إعادة تفسير النصوص الدينية بما يُعزز حقوق الطفل ويحمي الفتيات من الاستغلال، مع التأكيد على أن الدين ليس عائقًا أمام التقدم، بل يجب أن يكون وسيلة لتعزيز القيم الإنسانية الحديثة، بحسب الحسيني.

قراءة تفكيكية موجزة

الزواج المبكر هو ممارسة تتطلب تفكيكًا شاملًا من منظور نقدي يجمع بين الاعتبارات الدينية والثقافية والاجتماعية والحقوقية. هذه الممارسة ليست مجرد مسألة شخصية أو خيار فردي، بل هي قضية حقوقية وأخلاقية تتطلب تدخلًا فوريًا لحماية الفتيات وتمكينهن من حياة أفضل.

التفسيرات الدينية التي تُستخدم لتبرير الزواج المبكر يجب أن تُعاد صياغتها في ضوء المعرفة الحديثة وحقوق الإنسان. من الضروري أن يتبنى العلماء الدينيون نهجًا أكثر تطورًا يعكس القيم الأساسية للعدالة والرحمة التي يُفترض أن تكون جوهر الشريعة الإسلامية.

من جهة أخرى، يجب أن نعمل على تغيير التقاليد الثقافية التي تُعزز الزواج المبكر وتجعله مقبولًا اجتماعيًا. التعليم والتمكين الاقتصادي للفتيات هما السبيل للخروج من هذه الدائرة المغلقة من الفقر والتمييز. يجب أن تكون هناك حملات توعية على نطاق واسع لتغيير النظرة السائدة تجاه الزواج المبكر وتقديم بدائل تُركز على تنمية قدرات الفتيات وإدماجهن في المجتمع بشكل كامل.

الزواج المبكر ليس مجرد مسألة دينية أو ثقافية، بل هو قضية حقوقية وأخلاقية تتطلب تدخلًا عالميًا لحماية الأطفال وضمان مستقبل أفضل لهم. يجب أن يكون الهدف هو بناء مجتمع يحترم حقوق الطفل ويُعزز من فرص الجميع في الحياة الكريمة والمشاركة الفعالة في المجتمع.

Related Post