التصريحات الأخيرة لولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، التي أكد فيها رفض بلاده إقامة أي علاقات دبلوماسية مع إسرائيل قبل قيام دولة فلسطينية مستقلة، تمثل حلقة جديدة في المشهد الإقليمي المعقد، لكنها في الوقت نفسه تثير تساؤلات عديدة حول مدى ثبات هذا الموقف، وحقيقة التحولات التي تشهدها السياسة السعودية في ظل الضغوط الدولية والإقليمية المتزايدة.
السعودية، التي لطالما تبنت موقفًا داعمًا للقضية الفلسطينية، تبدو اليوم في موقع صعب بين ثوابت تاريخية وضغوط جيوسياسية غير مسبوقة. فمن ناحية، تحرص الرياض على التأكيد أمام الداخل العربي والإسلامي أنها لم تتخلَ عن القضية الفلسطينية، لكنها من ناحية أخرى، تتحرك بشكل براغماتي في ساحة إقليمية ودولية مضطربة، حيث باتت التطورات في الشرق الأوسط تفرض إعادة رسم التحالفات بشكل قد لا يسمح بالمواقف الصلبة السابقة.
إن التصريحات المتكررة عن دعم قيام دولة فلسطينية ليست جديدة، بل لطالما كانت جزءًا من الخطاب الدبلوماسي السعودي، لكن ما يجعل هذه التصريحات تثير الجدل هو تزامنها مع تحركات إقليمية تتجه نحو التطبيع مع إسرائيل، والتي لم تعد مقتصرة على بعض الدول العربية الصغيرة، بل أصبحت تشكل محورًا استراتيجيًا للولايات المتحدة في المنطقة، حيث تروج واشنطن لفكرة “شرق أوسط جديد” قائم على شراكات اقتصادية وأمنية تشمل إسرائيل ودول الخليج، وعلى رأسها السعودية.
في ظل هذا السياق، لا يمكن قراءة الموقف السعودي بمعزل عن التحولات التي يشهدها المشهد الدولي. فمن جهة، تسعى الرياض إلى لعب دور أكثر تأثيرًا في النظام العالمي الجديد، وهو ما يجعلها بحاجة إلى بناء علاقات متوازنة مع كل الأطراف، بما في ذلك إسرائيل. ومن جهة أخرى، فإن الرياض لا تريد أن تتسرع في خطواتها، كما فعلت بعض الدول العربية الأخرى، لأن ذلك قد يضر بمكانتها الإقليمية كقوة مركزية في العالمين العربي والإسلامي.
اللافت في التصريحات الأخيرة هو الربط المباشر بين إقامة دولة فلسطينية والتطبيع مع إسرائيل، وهو ما يعكس رغبة السعودية في إبقاء هذا الملف ورقة ضغط سياسية، لكن هل يمكن أن يكون هذا الالتزام حقيقيًا أم مجرد موقف مؤقت لكسب الوقت؟ التجارب السابقة أثبتت أن المواقف السياسية يمكن أن تتغير تبعًا للظروف، والسعودية ليست استثناءً من ذلك. فمثلما كانت رافضة لأي تقارب مع إيران، عادت وأعادت ترتيب علاقاتها معها، ومثلما كانت ترفض الانفتاح على بعض القوى الإقليمية، تغيرت سياساتها لاحقًا وفق مقتضيات الواقع الجديد.
المعضلة التي تواجه السياسة السعودية هنا هي كيفية الموازنة بين متطلبات التحالفات الدولية والحفاظ على شرعيتها الإقليمية. فبينما ترى الولايات المتحدة وإسرائيل أن الرياض هي الحلقة الأهم في استكمال مشروع التطبيع العربي، ترى السعودية أن التسرع في هذا الملف قد يؤدي إلى اهتزاز صورتها أمام الشعوب العربية والإسلامية، خاصة في ظل تصاعد القمع الإسرائيلي في الضفة الغربية وغزة، واستمرار الاستيطان، وانتهاك المقدسات.
لكن، وبعيدًا عن العواطف والمواقف المعلنة، هل تمتلك السعودية بالفعل أوراق ضغط كافية لفرض حل عادل للقضية الفلسطينية؟ الواقع يقول إن إسرائيل لا تشعر بأي ضغط حقيقي يجعلها مضطرة لتقديم تنازلات جوهرية، خصوصًا أن المشهد الدولي اليوم منحاز لصالحها، سواء عبر الدعم الأمريكي المفتوح، أو عبر ضعف الموقف الأوروبي، أو حتى عبر حالة الانقسام العربي. وبالتالي، فإن الحديث عن ربط التطبيع بإقامة دولة فلسطينية قد يكون مجرد موقف تفاوضي أكثر منه التزامًا حقيقيًا، خاصة أن المبادرات السياسية التي طرحتها السعودية سابقًا، مثل مبادرة السلام العربية لعام 2002، لم تجد أي صدى لدى إسرائيل.
يبقى السؤال الأهم: هل يمكن للسعودية أن تحافظ على هذا الموقف طويلًا؟ أم أن الضغوط الدولية والإقليمية قد تدفعها في النهاية إلى إعادة صياغة موقفها بشكل أكثر براغماتية، كما حدث في ملفات إقليمية أخرى؟ ما هو مؤكد أن القضية الفلسطينية لم تعد اليوم أولوية بالنسبة للكثير من الأنظمة العربية، بل باتت تُستخدم كورقة تفاوضية في ملفات أكبر، والموقف السعودي قد لا يكون استثناءً من هذه القاعدة.
“بعمق” زاوية أسبوعية سياسية تحليلية على “شُبّاك” يكتبها رئيس التحرير: مالك الحافظ